اذا كان التاريخ الحديث يستند بصورة اساسية الى الوثائق , فالتاريخ القديم يجد مستنداتة في علم الاثار وما يتصل بة . ومع ان الاهتمام بالاثار لم يأخذ المنحي الجدي الا في العصور الحديثة , فانها كانت تفرض نفسها على الناس الذين كانوا ينسجون تاريخا اسطوريا , في الغالب , يفسر وجودها , او يحاولون الكشف عن اسرارها السحرية او هويتها . نابونيذ اخر ملوك بابل مثلا امر بالحفر في الاحجار الاساسية لهيكل كان يسبق عهدة ب 3200 سنة ليعرف مبلغ قدمة . وقد وجدت اشارات اثرية لدى المؤرخ توكيديس ( 460-395 ق.م ) ولدى بعض مؤرخي اليونان , اهتم بها الامبراطور هارديان . لكن الاثار لم تكن بصورة عامة محترمة , لا بسبب عدم تقدير قيمتها التاريخية فحسب , ولكن بسبب النظر في العصر المسيحي , ثم في الاسلامي من بعدة , على انها بقايا وثنية لا تستحق الاحترام والحفظ , ان لم يكن من المستحب تهشيم انوفها , او الاستفادة من حجارتها . يضاف الى ذلك عمليات السطو الذي لم ينقطع , منذ القديم , على ما يجدة الناس , او يتوهمون وجودة من كنوزها السحرية الخبيئة .
الاثار لدى مؤرخي الاسلام
مع ذلك اهتم عدد من المؤرخين المسلمين بالاثار القديمة . لكنهم لم يتعدوا وصفها , ومحاولة القراءة الوهمية او الوعظية لكتاباتها , ونسبتها احيانا الى الجن او سليمان او قوم عاد ( ومن هنا تسميتها بالعاديات ) . من هؤلاء المؤرخين مثلا ابن عساكر وابن العديم وابن شداد والمقريزي وابن الجوزي . ونجد الاهتمام نفسة بين لدى الجغرافيين العرب , كالمقدسي وابن رستة والادريسي , ولدى الرحالين الذين كانوا يصفون ما يمرون بة من الاوابد . وقد دعا بعض العلماء الى حفظ هذة الاثار , ومن هؤلاء عبد اللطيف البغدادي وابن خلدون . واستأثرت اثار مصر بالذات باهتمام عدد من المؤرخين , فألفوا في عجائب مصر واهراماتها ( كابن وصيف شاة , وابن فضل اللة العمري , ومحمد الوطواط ) كما الف اخرون في اثار اليمن ( الهمذاني ) واثار فارس ( حمزة الاصبهاني ) واثار مكة ( الارزقي والفاسي ).
الاثار في العصر الحديث
اهتم الاوروبيون , في عصر النهضة , بالاثار اليونانية والرومانية , لانها موجودة حولهم , ولانها العصر الكلاسيكي بالنسبة اليهم , ولان العودة اليها كانت سمة من سمات ذلك العصر . بتأثير التاريخ المسيحي , بعد ذلك , والتوسع الاستعماري , امتد الاهتمام الى الشرق . عمل ذلك الفلرنسيون اولا ثم الانجليز . شاركهم بعض الاوروبيين الاخرين , قبل ان يأتي الالمان في القرن ال19 . كان بين هؤلاء الهواة المولعين بالاثار دبلوماسيون وعلماء ورجال دين وضباط وتجار . كانت كتابات هؤلاء وما يحملون الى بلادهم من الاثار تزيد في الاهتمام الاثري في الغرب , كما تزيد في منح الشرق طابع الكنوز الاسطورية .
كان القرن ال19 قرن النشاط الاثري الواسع لاكثر من سبب . فهناك التوسع الاستعماري , وانتشار الافكار الانسانية الموسوعية , وتوفر المال في اوروبا للانفاق على البحوث والبعثات , وظهور النظريات في قدم الارض وقدم الانسان عليها , واعادة الاعتبار للحضارات السابقة للديانات الموحدة . يضاف الى ذلك ما رافق الكشوف الاثرية من مادة علمية جديدة ومن كسب مادي ومن اعجاب عام . وبخاصة بعد ذيوع الاخبار عن هركلانوم ( سنة 1719) وبومبي ( سنة 1847 ) وتدمر ( سنة 1753 ) وبعلبك ( سنة 1757 ) وبطرا (سنة 1812 ) , وبعد ان حل شمبوليون الرموز الهيروغلوفية سنة 1822 وكشف شليمان ( سنة 1822-1890) عن مدينة طروادة الاسطورية (1) , وقام التنافس الشرس على نهب اثار اليونان وما بين النهرين (2) بين الانجليز والفرنسيين في اواسط القرن , ونشرت اخبار مأرب سنة 1870 وكشفت كنوسوس في كريت سنة 1900 .
علم الاثار الحديث
خلال ذلك كانت الاكتشافات في حقل ما قبل التاريخ والعصور الحجرية (3) تزداد , وبخاصة بعد النظريات التي احدثت ثورة في الجيولوجيا ( تشارلز ليل سنة 1833) وفي الانواع الحية ( كتاب اصل الانواع لداروين سنة 1859) واعادة تنظيم العصور الانسانية قبل التاريخ (4) . بين هذا وذاك تحول الاهتمام بالاثار من الهواة الى العلماء , ومن الطمع بنهبها للزينة , الى محاولة دراستها واقامة تطور الحياة الانسانية على اساسها . وولدت ضمن علم الاثار عدة علوم حسب المناطق الاثرية ( مصر , اشور , يونان ... ) وحسب نوع الاثار ( فخار , نقوش , بردي ) , بينما كانت المكتشفات الاثرية تفاجئ الانسان كل يوم بجديد مدهش يزيد في شحذ همته وفي قيمة العمل الاثري , مثل مقبرة توت عنخ اموا (6) ومدينة ماتشوبيتشو (7) .
في القرن العشرين , جاءت التقنيات الحديثة الى هذا العالم , وبالتالي الى التاريخ , بمعونات كبيرة , كالتصوير الجوي لكشف الحقول الاثرية , والتصوير بالابعاد ( فوتوغرامتري ) , والتنقيب الجيوفيزيائي والاستراتيغرافي ( حسب الطبقات ) , وتحديد التواريخ الاثرية بقياس التلف الاشعاعي . هكذا صار لعلم الاثار اليوم مؤسساتة واختصاصيوة في التنقيب والحفظ والترميم (5) . وصار يشمل في الزمان ملايين السنين , وفي المكان جميع بقاع الارض , وبقايا الانسان . اهم من ذلك كلة انة اخذ مكانة الوطيد بوصفة بعدا اساسيا من ابعاد المعرفة بالانسان .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق