الأحد، 3 مايو 2015

افريقيا : كوش وأكسوم

على مر التاريخ المصري القديم , كانت جيوش الفراعنة تدفع حدود امبراطوريتهم جنوبا باستمرار على امتداد نهر النيل , محور مدنيتهم ومركزها , باتجاه افريقيا الاستوائية السوداء . وبحلول عهد المملكة الحديثة ( 1500 ؟ - ق.م ) كانت جميع الاراضي المحيطة بالنهر , حتى الشلال الرابع , قد فتحت واستوطنت الى درجة ما من قبل المصريين . كانت هذه البلاد التي دعيت فيما بعد ببلاد النوبة , تعرف لدى المصريين باسم كوش .
  ظهور مملكة كوش 
  في حوالي 1000 ق.م , كانت المملكة الحديثة قد انهارت , وبرزت كوش كدولة مستقلة عن مصر , لا سياسيا وحسب , بل ثقافيا ايضا , مع الزمن . في غضون 200 سنة , كان حكامها قد بلغوا درجة من الاستقلال والمنعة استطاعوا معها عام 725 ق.م ان يزحفوا شمالا على طول النيل , ويحتلوا مصر بكاملها , ويؤسسوا الاسرة الخامسة والعشرين من الفراعنة (4) .
  الا ان الحكم الكوشي لمصر لم يدم طويلا . فبين 676 و 663 ق.م غزت الجيوش الاشورية مصر ودمرتها , في عهد اسر حدون اولا ثم في عهد اشور بانيبال , فتراجع الفرعون الكوشي تاهارقا جنوبا حتى كوش . كان سر انتصارات الجيوش الاشورية القوية في ارجاء الشرق الاوسط يكمن في الاسلحة الحديدية التي كانت بحوزتها , والتي كانت تتفوق كثيرا على على الاسلحة البرنزية التي يستعملها اعداؤها .
  تعلم قادة كوش درسا قاسيا خلال معاركهم مع الاشوريين , لكنهم حملو معهم التقنية الحديدية التي اصبحت اساسا لاستقرارهم . فبعد انسحابهم من مصر , اخذوا يتوغلون جنوبا , لكنهم لم يبتعدوا عن مجرى النيل , اذ ان المناطق المحيطة بجانبي النهر العظيم كانت اخصب مما اصبحت عليه في العصور اللاحقة , وكانت قادرة على توفير الغذاء لقطعان كبيرة من المواشي . مع حلول القرن السادس ق.م كانت حدود كوش قد بلغت جنوبي مدينة الخرطوم الحديثة . حيث كانت الارض مكسوة بالغابات الكثيفة .
  سيطرة حضارة مروى 
  انتقل مركز السلطة في الامبراطورية جنوبا , من نباتا العاصمة القديمة بالقرب من الشلال الرابع , الى مروى , في الجنوب من التقاء نهر عطبة مع النيل . منذ ذلك التاريخ , صار يشار الى الامبراطورية غالبا باسم مروى , عوضا عن كوش . وفيما كان بعض سكان الجزء الشمالي من كوش من السود , كان تقريبا جميع سكان المنطقة المحيطة بمروى من السود , واصبحت الامبراطورية بكاملها دولة سوداء .
  كان لمروى موارد غزيرة من الحديد الخام , ومن الخشب اللازم لصهره , فانتشرت صناعة الحديد في الامبراطورية على نطاق واسع , وما زالت اكوام ضخمة من الحديد منثورة في المناطق الريفية حتى الان . استطاع فرسان الجيش المروي المسلحون تسليحا جيدا ان يدافعوا عن الاراضي الاهلة , ضد هجمات البدو الرحل القادمين من الصحراء , وازدهرت التجارة مع مصر البطلمية , ومع الجزيرة العربية , وحتى مع الهند عن طريق البحر الاحمر .
  الا ان حضارة مروى او كوش اخذت في التقهقر في مطلع الحقبة المسيحية . كان ذلك نتيجة اجداب داخلي , ولا سيما جفاف الاراضي الزراعية التي كانت غنية بالكلأ .
  دامت امبراطورية كوش ومروى اكثر من الف سنة , وكانت انجازاتها الثقافية غنية ونابضة بالحيوية (2,5) , وقد مثلت اكثر من مجرد شكل افريقي للحضارة المصرية . اذ ان سكان هذه الامبراطورية اخذوا تراثهم المصري واضافوا عليه الكثير مما اقتبسوه من شعوب شرقي البحر المتوسط , من اشوريين وبابليين , ومن العالم الهلينستي والهند , وصاغوا من كل ذلك شيئا فريدا , بما فيه نمطهم الخاص بالكتابة , وهو خط نسخي استعصى حتى اليوم على محاولات فك رموزه (7) .
  اكسوم : الامبراطورية المناوئة في اثيوبيا 
  نشأت اكسوم , الامبراطورية المناوئة لمروى , في الجزيرة العربية , لا في القارة الافريقية . فقد قام في اليمن عدد من الدول الصغيرة الغنية , في اوائل الالف الاول ق.م , كانت سبأ احداها , وهي على الارجح مملكة شيبا التي اقترن ذكرها بزمن الملك سليمان . ومع حلول القرن السابع ق.م , عبرت مجموعات من الشعوب العربية الناطقة بالسامية , من اليمن كثيفة السكان الى قرن افريقيا عبر البحر الاحمر , وحل افرادها كمزارعين على الطرف الشمالي الشرقي من هضبة اثيوبيا العالية . هنالك حققوا درجة كبيرة من الازدهار , واستطاعوا السيطرة على اهل البلاد الاصليين الناطقين بالكوشية , فتقبل الكثير من هؤلاء بالتدريج ثقافة الوافدين الجدد ولغتهم السامية . ثم اسس فريق من هؤلاء المهاجرين , وافراده مدعوون بالاحباش , مملكة لهم في القرن الثالث ق.م , مركزها اكسوم (6) .
  كان لليونان الهلينستيين نفوذ خاص في بلاط ملوك اكسوم , فمهدوا الطريق امام قدوم المسيحية . استولى حكام اكسوم المسيحيون على بعض اجزاء الجزيرة العربية الجنوبية في القرن السادس الميلادي , لكن ما لبثت الجيوش الفارسية ان طردتهم منها . بعد ذلك الحين , اخذت اكسوم تتدهور تدريجيا . لا سيما حين قطع الفتح العربي الاسلامي تجارتها على البحر الاحمر , وادى اجتياح قبائل البدو الرحل لها الى زوال قوتها .

(1) احتلت حضارات كوش ومروى واكسوم الزاوية الشمالية الشرقية من افريقيا , كوش ومروى في منتصف وادي النيل الى الجنوب من مصر , واكسوم في الجرف الجبلي العالي شمالي الحبشة . كانت اكسوم العربية الاصل هي الدولة المؤسسة لامبراطورية اثيوبيا المسيجية .

(2) كان معبود كوش الاسد منقوشا على جدار هيكل في ناقا ( 100 ق.م - 100م ) وهي مركز واقع الى الجنوب من مروى . يكشف هذا النقش عن تأثير هندي 





(3) بقيشئ من الفن المسيحي , الذي خلفته ممالك مسيحية منقرضة , في احدى الكنائس في فاراس بالقرب من وادي حلفا , الذي تغمره الان الان مياه سد اسوان , خلفت ممالك مسيحية امرراطورية كوش ومروى , بعد سقوط تلك الامبراطورية في القرن الخامس م , وقبل ان تصبح مصر جزءا من العالم الاسلامي 
(4) كان نارو حاكم طيبة اثناء حكم احدى سلالات الفراعنة الكوشيين , في القرنين الثامن والسابع ق.م . كان الكوشيون قد زحفوا شمالا وحكموا مصر حتى هزمهم وردهم الى بلادهم غاز جديد , هو "جيش الاشوريين الحديدي " . حضارة الكوشيين في مصر تشكل الجزء قبل الاخير من الحضارة الفرعونية .






(5) يظهر فيل وعدد من اسرى الحرب في نقوش حافة احد الهياكل الذي انشئ في القرن الاول م . كانت الفيلة تستعمل لاغراض عسكرية واحتفالية , في كوش ومروى , يلاحظ في النقوش الكوشية كلها انها خشنة الازميل والصقل . تأثرها بالنحت المصري او الاغريقي , بوادي النيل كان محدودا , وهي اشبه بالنحت اليمني 

 (6) اسس امبراطورية اكسوم في القرن الافريقي مهاجرون عرب من اليمن , وكانت هذه الدولة عظيمة وغنية بالمنتوجات تمارس النشاط التجاري مع جزيرة العرب واليونان والهند , وهي بلاد ذات جروف شامخة , اعلاها راس داجان البالغ ارتفاعه 4620 م , كانت من اصعب البلدان الافريقية سواء للعيش فيها او لغزوها , وقد دخلت عالم الاساطير الاوروبية كموطن للملك المسيحي الاسطوري , الراهب يوحنا .

(7) هذا الخط المروي الغامض (ا) لم تفك رموزه بعد . لكننا نعلم ان الخط السبئي (ب) الخاص بمملكة اكسوم هو اساس اللغة الامهرية الحديثة , التي هي لغة اثيوبيا .




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق