الخميس، 26 فبراير 2015

الهند القديمة " حتى 500 ق.م "


   اقدم الدلائل على ظهور حضارة ذات كتابة في الهند تعود الى حوالي عام 2300 ق.م , وذلك عندما خرجت حضارة نهر الهندوس (= السند ) من عصور ما قبل التاريخ ودخلت التاريخ . كانت المراكز الرئيسية للحضارة الهندوسية او الهربية ( نسبة الى مدينة هربا ) في وادي الهندوس الواقع معظمه الان في باكستان , الا ان تلك الحضارة امتدت غربا الى حتى الحدود الايرانية , وشرقا الى ما وراء دلهي , وجنوبا الى خليج بروتش (1) . كانت مدنها الرئيسية هي : هربا في البنجاب , وموهجنو- دارو في السند , ولكن كان لها ايضا عدد من المدن الصغرى , كميناء لوثال مثلا .
  طبيعة المستوطنات 
  تدل هذه المدن على تصميم مدني متقدم . وتشير الاثار الباقية الى حضارة مادية راقية ومتنوعة (3) .
  من البديهي القول ان مثل هذه الحضارة المتقدمة كانت تحتاج الى نوع من الكتابة . وقد عثر على الالاف من الاختام المصنوعة من حجر الطلق ( او حجر الصابون ) (7) والتي احتوت , بالاضافة الى رسوم الحيوانات والناس والمعبودات , على كتابات قصيرة بخط تصويري لم تفك رموزه بعد .
  نهاية حضارة نهر ( الهندوس )
  معلوماتنا عن نهاية حضارة نهر الهندوس هي اقل حتى من معلوماتنا عن نشأتها . فبعد ان ازدهرت لمدة خمسة او ستة قرون ( 2300 ق.م - 1750 ق.م ) دون ان يطرأعليها اي تغير يذكر , تلاشت تماما عقب فترة قصيرة من الانحطاط . ومع اننا لا نستطيع استبعاد عامل الكوارث الطبيعية كليا , يبدو اليوم ان مدن نهر الهندوس خضعت اولا , في حدود سنة 2000 ق.م , لسيطرة العناصر الهندية التي تعرف بالدرافيدية والتي تابعت حضارتها , حتى تعرضت المنطقة كلها لاجتياح خيالة رحل في القرن الثامن عشر ق.م قيل انهم كانوا من شعوب هندو- ارية . الا ان ذلك غير مؤكد . مع حلول القرن 13 ق.م , كان الهندواريون قد احتلوا البنجاب , بعد ان انقسموا ال قبائل تحاربت فيما بينها بالشراسة نفسها التي قاتلت بها السكان الاصليين .
  تعود مجموعة كبيرة من الترانيم الدينية المكتوبة بلغة سنسكريتية قديمة , عنوانها الريشما فيدا = ( المعرفة ) الى هذه المرحلة المبكرة ( حوالي 1400 - 1000 ق.م ) . وقد نشأ عن النصوص الفيدية الاربعة , واهمها ريشما فيدا = ( معرفة الحكماء ) , عدد من الشروح والتعليقات اشهرها جميعا الابنشد = ( الدروس ) . كان الهنود عادة يتصورون المعبودات , كالمعبود اندرا , مجسمين على شكل بشر , الا ان بعض الملامح التي اصبحت فيما بعد من مميزات الهندوسية اخذت في الظهور في ذلك الوقت , كالتأمل والتفكير في طبيعة الذبائح .
  خلال الحقبة الفيدية الكتأخرة ( حوالي 1000-550 ق.م )انتشر الهندواريون , ( وقد راحوا يستعملون الادوات الحديدية الفعالة انذاك ) , حتى شمالي الهند , بما في ذلك وادي الغانج , مخترقين الغابات , لكي يتمكنوا من زراعة الاراضي الخصبة . يمكن تتبع هذا الانتشار التدريجي بواسطة نوع خاص من الفخار , هو الانية الفخارية الرمادية الملونة . لم يكن هؤلاء الاقوام قد تعودوا على كالهربيين على حياة المدن , لكنهم اثناء انتشارهم اختلط ابنائهم بقبائل الغابات , ممن كانوا سبقوهم الى الاستطيان , وتعرفوا على الحصان , فتغيرت طريقة حياتهم من شبه رحل يرعون الماشية الى مزارعين مستقرين .
  كان لهذا التغير جوانب سياسية وثقافية هامة . فقد حلت محل الوحدات القبلية ممالك لم تعد قائمة على صلة الرحم , بل على اقطاع الاراضي . واخذت تسيطر على الممالك طبقات محاربة ( الكشتريا ) يرأسها ملك , ويعاونها اعضاء طبقة الكهنة الوراثية ( البراهمة ) , ذات النفوذ الكبير . كانت هاتان الطبقتان الحاكمتان تسيطران على الاحرار من الفلاحين والتجار والصناع الذين كانوا يؤلفون الطبقة الثالثة ( فيشيا ) , بالاضافة الى شبه العبيد من العمال والصيادين والقناصين المتحدرين جزئيا , من قبائل الغابات , والذين كانوا يؤلفون الطبقة الدنيا ( الشودرا ) . وكان بعض هؤلاء , لا سيما اولئك الذين كانت طريقة حياتهم تعتبر نجسة او كريهة من قبل الهندواريين , يدرجون في عداد المنبوذين . كانت تلك بداية نظام الطبقات المغلق المعقد .
  نشأة المدن الكبرى 
  نشأت خلال هذه الحقبة , المدن الكبرى , للمرة الاولى  منذ تقهقر مدن حوض الهندوس . كانت اكثر هذه المدن اهمية هاستينابورا على نهر الغانج شرقي مدينة دلهي اليوم , ومدينة راجير التي انشئت حوالي 500 ق.م في بهار الجنوبية , وتميزت بأسوارها الضخمة . في هذه الحقبة ذاتها , اخذت معظم المفاهيم الاساسية للديانة الهندوسية تتكون : ليس مفهوم الطبقة وحسب , بل ايضا الايمان بتناسخ الارواح , وباللاعنف , وبقدسية البقر , اي جميع تلك المفاهيم التي غذت الملامح الثابتة للحضارة الهندية . وبينما بقيت التضحية الفيدية مستمرة لا بل اصبحت اكثر تعقيدا , ظهرت ردة فعل في صفوف اولئك الذين شعروا بالتبرم تجاه الديانة الرسمية , وراحوا يبحثون عن قبم عليا في التأمل . فأخذ ابناء الطبقات الحاكمة يعكفون على الانقطاع الى حياة التأمل في الغابات , عندما لم يعد اولادهم بحاجة اليهم , وعلى هذا الاساس انشأ سيدارتا جوتاما ( 563؟ -483؟ ق.م ) الديانة البوذية .    


(1) تبين المناطق الملونة باللون البني على الخريطة انتشار حضارة نهر السند التي امتدت من الجنوب الشرقي باتجاه الساحل الى ما وراء خليج بروتش , وشرقا الى ما وراء دلهي الحالية . اما الانتشار غربا باتجاه بلوشستان فلا يظهر في الصورة . على امتداد هذه المساحة الضخمة ( تبعد روبار عن لوتال حوالي 1600 كلم ) كانت حضارة الهندوس متجانسة , مما يوحي بسيطرة مركزية . كانت طبيعة المنطقة تسهل السيطرة السياسية , اذ ان هذه الحضارة ازدهرت في المناطق الجافة نسبيا , ( خلافا للغابات الاستوائية الممطرة ) التي كان من الممكن زراعتها بدون ادوات حديدية .

(2) كانت مدن نهر الهندوس الكبرى , جميعها تتألف من قلعة على مرتفع , تقوم حوله مساكن الاهلين , ممتدة الى شرقي القلعة , كانت القلعة مركزا لمعظم المباني العامة الكبرى , ففي قلعة موهنجودارو مثلا , نجد الحمام الكبير ومخازن الحبوب وبناية يحتمل انها مدرسة بحكم شكلها ( فهي عبارة عن مجموعة من الساحات والممرات والحجرات المنفصلة ) . اما المدينة السفلى فكانت عبارة عن المنطقة السكنية . تبين هذه الخريطة لموهنجودارو شبكة البلد في القسم الاسفل من المدينة , والمنازل التي تختلف كثيرا من حيث الحجم , فمنها ما يتألف من غرفة واحدة ومنها ما يضم اكثر من 20 غرفة . 




(3) بنيت المدينة الهندوسية القديمة موهنجودارو وفقا لتصميم منظم , مع شوارع متقاطعة على زوايا قائمة , ومنازل تطل على الشوارع , عثر ايضا على مخازن حبوب متطورة .


(4) هذا التمثال من الحجر الكلسي هو احد المنحوتات القليلة التي وصلتنا من حضارة نهر الهندوس يبلغ ارتفاعه 19 سم ويقدم لنا تمثال شخص ذي لحية وجبين منخفض مرتد الى الوراء وعينين مستطيلتين وشفتين كثيفتين . تنم المنحوتة عن ذوق وفن رفيعين . 
(5) تظهر في معظم الاختام الاتية من موهنجودارو رسوم حيوانات , بعضها طبيعي والاخر مركب او خيالي , يبين هذا الختم معبودا ذا ثلاث رؤوس وقرن , يجلس بوضع يذكرنا بأوضاع اليوجا ( ازانا ) في العصور اللاحقة , يحيط بالمعبود عدد من الحيوانات , هنا , بالاضافة الى ملامح اخرى يعيد الى الاذهان تمثيلات المعبود شيفا 
(6) يبدأ اقدم تاريخ حقيقي لشبه القارة الهندية الباكستانية بعد منتصف الالف الثالثة ق.م عندما نشأت مدنية راقية في وادي نهر الهندوس وحوله لمدة تجاوزت 6 قرون , دون ان يطرأ عليها اي تغيير يذكر . ويظهر ان نهايتها المفاجئة كانت نتيجة لهجمات هندوارية , الا انه يبدو اقرب الى الاحتمال ان هذه الهجمات حدثت عندما كانت حضارة نهر الهندوس قد تصدعت , استقر الهندواريون في القرى في البنجاب , وكانوا ينقسمون الى قبائل . نعرف عنها بعض الشئ من الريشمافيدا . ثم امتدت الحضارة الهندوارية ما بين 1000 و 500 ق.م على طول وادي الغانج ( كما يظهر بوضوح من مخلفات الادب الفيدي اللاحق ) , واتخذت الديانة الهندوسية القديمة شكلها المعروف .
(7) هذه القوالب الثلاث المأخوذة عن اختام عثر عليها في موهنجودارو تعطينا معلومات قيمة عن المدينة الهندوسية القديمة , بأطلاعنا مثلا على ان الماشية كانت قد اصبحت اليفة في ذلك الوقت , تمثل هذه الاختام ثورا يأكل من معلف وفيلا ووحيد قرن , اما الكتابة فهي تصويرية لم يستطع احدا فك رموزها بعد .  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق