الأربعاء، 9 ديسمبر 2015

الهند " منذ 500 ق.م حتى 300 م "

 يعتبر عصر بوذا ( 563؟ 483 ق.م ) (2 , 3 ) نقطة البداية لاحدى الديانات العالمية الكبرى , ولتطورات هامة في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية , في شبه القارة الهندية , كان ذلك عصر انبثقت فيه ديانات مختلفة ( مثل الجينية ) , وعصر تغيرات برزت فيه الشكوك حيال القيم التقليدية الراسخة . 
 التجارة والتغير السياسي 
  في الحقل السياسي , نشأت دول كبيرة توسعية , سيطرت اربع منها على مسرح الاحداث , كانت اقوى هذه الدول ماغاذا في الجزء الجنوبي من بهار , وكانت عاصمتها اولا في راجير , ثم انتقلت فيما بعد الى باتاليبوترا ( بتنه ) . كان الحديد هو المورد الاقتصادي الرئيسي , الا ان القوة التي تمتعت بها الدولة كانت ايضا نتيجة لدور بعض الحكام النشيطين , الذين تخلصوا تدريجيا من منافسيهم بالقوة والدبلماسية . 
  ازدهرت الصناعات المنزلية كالنسيج والفخار والصناعات المعدنية , ونظمت ضمن نقابات . كان نتاج هذه الصناعات , بالاضافة الى الفائض الزراعي , يتم تبادله بين المراكز الهندية الشمالية المختلفة , وبين الامبراطورية الاخمينية ( الفارسية ) , الى الغرب . كان اصحاب المصارف يمولون معظم اشكال التجارة , ويقدمون وسائل النقل , ويتحملون الخسائر , ساعدت هذه النشاطات على قيام طبقة ميسورة , تتألف خصوصا من اناس لم يكونوا راضين عن انقسام المجتمع الهندي , انذاك , الى طبقات متميزة , وغالبا ما اصبح امثال هؤلاء انصار متحمسين للبوذية , وسواها من الاديان غير الهندوسية . 
  تعثرت هذه التطورات لفترة من الزمن نتيجة غزوة الاسكندر الكبير ( 356 - 323 ق.م ) عام 327 ق.م . فبعد اجتياح الامبراطورية الفارسية , زحف الاسكندر على مقاطعاتها الهندية لاحتلالها . ولكنه , طمعا في ثروة الهند الاسطورية , عمد الى التقدم الى ابعد من ذلك . واستطاع ان يتوغل في البنجاب . الا انه سرعان ما اكره على التراجع , ولم يلبث الحكام الذين عينهم , ليحكموا المقاطعات بعد رحيله ان اقتفوا اثره ( 5 ) .
  العهد المورياني المجيد 
  خلف تراجع الاسكندر وراءه شعورا قويا بالوحدة الهندية , التي وجدت زعيما لها في المحارب الشاب تشاندرا جوبتا ( 321 ؟ - 297 ق.م ) بدأ هذا الزعيم بتحرير المقاطعات الغربية , ثم زحف على باتاليبوترا , حيث تغلب على ملك ماغاذا الناندائي , وهكذا اسس السلالة الموريانية عام 320 ق.م . في محاولة تشاندراجوبتا للاستيلاء على العرش , كان يؤازره وزيره البارع الداهية كوتيليا الذي يعتبر مؤلف اهم اثر هندي في السياسة هو " ارثاشاسترا " .
  كان العهد المورياني ( 320 - 185 ق.م ) من اكثر عهود التاريخ الهندي تألقا , كان تشاندراجوبتا يسيطر على شمالي الهند من جبال هندوكوش حتى البنغال . وربما على بعض اجزاء جنوبي الهند ايضا . كانت المملكة تتصف بالمركزية , بصورة عامة , وذلك الى حد ما بفضل شبكة الطرقات . عقد تشاندراجوبتا عام 305 ق.م معاهدة مع سلوقس اليوناني ( 355 ؟ - 281 ق.م ) الذي اوفد ميجاستينس ( 350 ؟ - 290 ق.م ) الى البلاط الهندي مبعوثا ليمنح تشاندراجوبتا رسميا حقوق الحكم في المقاطعات التي كان الاسكندر قد احتلها في الهند . 
  بلغت الامبراطورية الموريانية (1) اوجها في عهد اشوكا ( 274 ؟ - 236 ق.م ) حفيد تشاندرا جوبتا وهو اقوى ملوك الهند القديمة . استمر اشوكا بادئ الامر يمارس السياسات التوسعية التقليدية , لكنه لم يلبث ان تخلى عن محاولة فتح البلدان بالقوة , على اثر حملة شرسة على كالينجا ( وهي دولة اوريسا الحديثة ) , واستبدل بذلك اسلوب الفتح بالحسنى . وحوالي ذلك الوقت اعتنق اشوكا البوذية واصبح واحدا من اكثر دعاتها المتحمسين . 
  اليونان الهنود والسلالة الكوشية 
  واصلت السلالة الموريانية السيطرة على مساحات شاسعة من الهند حتى بعد انقضاء 50 سنة على موت اشوكا , الا ان سيطرتها ما لبثت ان انحسرت , ففي عام 185 ق.م قام قائد الجيش بوشياماترا بأحد اوائل الانقلابات العسكرية . فعزل اخر الملوك الموريانيين , واسس سلالة السونجا , وسرعان ما نقل مركز الدولة من بيهار الى اواسط الهند . كان بوشيامترا حاكما قديرا الا ان خلفائه لم يستطيعوا الحيلولة دون هجمات اليونان البكتريين , وهم المتحدرون من بعض قواد الاسكندر , استطاع الهنود صد بعض هؤلاء المهاجمين , بينما توصل بعضهم الاخر الى تأسيس ممالك قصيرة الاجل , في البنجاب ومواقع اخرى , تأثر كثير من هؤلاء بالحضارة الهندية , ولذلك يعرفون غالبا باليونان الهنود . 
  جاء في اعقاب اليونان الهنود غزاة من اواسط الهند , وفي عام 78 م كان معظم شمالي الهند تحت سيطرة كانيشكا ( توفي سنة 100 م ؟ ) (6) احد ملوك السلالة الكوشانية البوذية التي لم تلبث ان طردت من الهند , بعد مرور قرن واحد . فنجم عن ذلك ردة فعل هندوسية , وتطورت السنسكريتية , وكانت لغة الكتب المقدسة , واصبحت لغة التفاهم بين افراد الطبقة العليا في الادارة , ولا سيما في الادب . ويرجح ان الملحمتين السنسكريتيتين العظيمتين , وهما " المهابهارتا " و " الرامايانا " قد الفتا اثناء هذه الحقبة . وان كانتا تحتويان على تقاليد اكثر قدما , ويصح القول ذاته في شرائع مانو , وعي التشريع الهندوسي الاساسي .   

 (1) كانت الامبراطورية الموريانية اعظم دول الهند القديمة . وكتنت تضم القسم الاكبر من نصف القارة الهندية ( باستثناء طرفها الجنوبي الاقصى ) , ومعظم البنغال والسند . كذلك كانت تضم اجزاء هامة من افغانستان الحديثة بحيث كانت تتحكم في المواصلات البرية الهامة جدا مع اللشرق الاوسط . يمكن تحديد حجمها بدقة استنادا الى مواقع المراسيم الاشوكية المنقوشة على الصخور والاعمدة . 
 (2) يقال ان بوذا كان يهدي الناس الى دينه عن طريق اجتراح المعجزات , كالمشي على الماء , وهو ما يظهر هنا (ا) في صور محفورة على مدخل برج سانشي . يمثل مشهد اخر (ب) والد بوذا وهو يؤدي واجب الخشوع للشجرة التي بلغ بوذا الاكبر حال الاشراق تحتها .
 (3) تظهر على المنحوتات الفخمة عند مدخل البرج العظيم في سانشي قصص بوذية دينية وصور معبودات محلية تنتمي الى الديانة الشعبية وكانت البوذية قد تسامحت معها . تدور القصص البوذية اما حول احداث هامة في حياة بوذا . او حول قصص تعود الى مراحل وجوده السلبقة , كأنسان او حيوان , للديانة الشعبية معبودات اخرى متنوعة , مثل الياكشات ( ارواح الشجر ) . 
 (4) شيد البرج العظيم , (وهو مزار ذو قبب) , في سانشي في عهد اشوكا , الا ان الحاجز والمداخل الفخمة النحت اضيفت اثناء لبقرنيين التاليين . كانت سانشي احد المراكز البوذية الرئيسية , ابتداء من عهد اشوكا على الاقل , حتى القرن العاشر الميلادي , وهي تقع في وسط الهند , حيث تلتقي الطرقات الرئيسية الممتدة من الشرق الى الغرب ومن الشمال الى الجنوب . وقد اعطت اسمها الى احدى مدارس النحت . 
 (5) بعد ان رحل الاسكندر عن الهند عام 325 ق.م , اسس عدد من حكامه امارات صغيرة في باكتريا , وشمال غرب الهند , وقد تأثر هؤلاء اليونان الى حد كبير , بالهنود , فأذا قارنا مثلا قطعة عملة من عهد ديوديتوس (ا) الذي لمع في القرن الثالث ق.م .  بعملة من عهد ميناندر (ب) ( حوالي 150 ق.م ) لا بد ان نلاحظ في الاولى التأثير الهندي , لا سيما في استعمال الخط الهندي . 
 (6) سيطر كانيشكا الاول اعظم ملوك كوشان على مساحات شاسعة من اسيا الوسطى , وتحكم بالقسم الاكبر من شمالي الهند , حتى بهار شرقا , صنع هذا الرسم الحديث على اساس تمثال نصفي لكانيشكا ( كما يذكر النقش ) اضيف اليه الرأس المأخوذ من احدى قطع عملة كانيشكا . يحدث المعطف والحذاء الاسكيثيان انطباعا قويا عن السلطة والقوة اللتين كان الملك يتمتع بهما .
 (7) ثمة جزء مزخرف جدا في كهوف كارلي بمهاراشترا , وهو الواجهة التي تضم المساحة الواقعة بين المداخل الثلاثة , فبالاضافة الى المشاهد البوذية التقليدية المرسومة فيها , تظهر رسوم الاتقياء الذين تبرعوا بالكهوف , ولا سيما الذين تبرعو بالارض لسد احتياجات الرهبان . يظهر المتبرعون عادة ازواجا , مما يدل على مكانة المرأة في هذه الحقبة من تاريخ الهند الغربية . 
(8) كانت جماعة الرهبان البوذيين , وفقا للتقليد البوذي , تستخدم الكهوف منذ اقدم الازمنة , لا سيما كملاجئ في موسم الامطار . ومع ان هذه الملاجئ استبدل بها تدريجيا اديرة مبنية , فقد استمر التقليد القديم في بعض اجزاء الهند , حيث كشفت الحفريات عن عدد من الكهوف تعود الى الفترة بين 100 ق.م و 900 اما كهف تشايتا في كارلي بمهاراشترا فلم يكن يستعمل للسكن , بل للعبادة .  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق