الجمعة، 30 سبتمبر 2016

خلفاء الاسكندر ... السلوقيون ( 2 )

   لم يرث الاسكندر الاكبر احدا من قادته املاكا وطموحا مثل سلوقس . كانت احلام الاسكندر تتضخم مع توسع الفتوحات على يديه , لدرجة الاصرار على مزج العالم القديم كله بعضه مع بعض , حتى بالزواج والصلاة المشتركة . وقد زرع 25 مدينة جديدة للاغريق في انحاء الامبراطورية كالمسامير , لربطها من مصر والشام حتى افغانستان والهند . كان قد بقي عليه فقط ان يخضع الجزيرة العربية واليمن ليجمع العالم بيده . حاول ذلك بالفعل . ارسل قائده نيارخوس ليكشف عن الساحل الاسيوي , من مصب نهر السند حتى مصب النهرين . ثم ارسل ثلاث بعثات بحرية تكتشف السواحل الغربية للخليج العربي حتى ما وراء عمان . لكنه توفى قبل تحول الاحلام حقيقة . كثيرون قبله دغدغوا مثل احلامه , لكن قلائل هم الذين تركوا اثرا عميقا مستمرا مثل اثره (1) . سلوقس كان اكثر خلفاء الاسكندر ارتباطا باحلام ملكه . 
   المملكة السلوقية :
   برز اسم سلوقس الاول ( 312-280 ق.م ) الملقب نيكاتور ( المنتصر ) حين استولى على اكبر اجزاء الامبراطورية من حوضي السند وجيجون الى شواطئ الشام الشمالية (3) , وان فشل في ضم اسيا الصغرى ومقدونيا . لكن هذه المملكة ما لبثت ان فقدت اجزاءها الشرقية كلها بالتدريج حتى انتهت دولة لسوريا فقط .
  حاول انطيوخوس الثالث الكبير ( 223-187 ق.م ) احد ادفاد سلوقس ان يعيد المجد لهذه الدولة , فتوغل بالحروب حتى وادي السند , واهتم بتجارة الجزيرة العربية يريد السيطرة عليها فردته الشواطئ الصعبة البعيدة ( 204 ق.م ) , وحارب البطالمة 20 سنة حروبا طويلة ناجحة استعمل فيها الفيلة . كان موضوع الخصومة الدائم بين السلوقيين والبطالمة هو السيطرة على جنوب سوريا ( سوريا المجوفة ) التي كان الطرفان يريدانها لاستقرار خطوطهما التجارية , ولاتخاذ خطوط دفاع وتهديد , بالاضافة الى غناها بالاخشاب والزيت وبعض المعادن . دارت من اجلها 5 حروب بينهما ( 276 - 200 ق.م ) وانتهت بسيطرة البطالمة عليها بعض الوقت . لكن السلوقيين عادوا في عهد انطيوخوس الرابع ( 175- 164 ق.م ) فحاربوهم ودخلوا بلادهم حتى الاسكندرية سنة 169 ق.م . 
  في البدء , كانت بابل هي العاصمة , ثم بنى سلوقس الاول مدينة انطاكية عاصمة للدولة . كانت سياسته نشر الهلينية , لهذا شيد اكثر من 16 مدينة مثلها تحمل اسم والده انطيوخوس , وتسع مدن تحمل اسمه , وخمس مدن تحمل اسم امه لاوديسا ( منها اللاذقية ) وثلاثا باسم زوجته اباما ( ومنها افامية في وسط سوريا على العاصي , وكانت للجيش والخزينة ) . بلغت المدن التي انشأها السلوقيون في سوريا وحدها 36 مدينة . وفي هذا ما يدل على التكاثر السكاني من جهة وعلى كثافة السكن الاغريقي وانفصاله عن السكان الاصليين من جهة ثانية . 
  النظام السلوقي 
  كان نظام الحكم الذي طبقه السلوقيون يقوم على الجمع بين اساسين مختلفين : فمن جهة مبدأ الملكية الشرقية القديمة التي تعطي الملك السلطة المطلقة , ومن جهة اخرى نظام المدينة اليونانية في المدن التي انشأوها . فكان للدولة - المدينة ( الاغريقية ) مسارحها ومؤسساتها الدستورية واستقلالها الذاتي الذي يرفض التسلط الملكي , وكانت تسعى لزيادة هذا الاستقلال مستغلة حاجة السلوقيين للمال . وقد صارت منذ عهد انطيوخوس الرابع ( 175 -163 ق.م ) حرة في سياستها وفي سك نقودها ولبعضها حصانتها الخاصة ( مثل ارواد وصور (4) وطرابلس وعسقلان ) مما اضعف المملكة وجعلها مجموعة خلايا مفككة , في الوقت الذي اضحت فيه هذه المدن اشبه بالجزر الحضارية الاغريقية , ضمن بحر من الحضارة والعادات والتقاليد الشرقية القديمة . الريف خاصة احتفظ بطابعه الحضاري الكامل وصفاته الارامية (5) , ومع ان الارض في عرف الامبراطورية كانت ملكا للدولة ( اي للملك ) , فان اراضي المدن والاراضي الموقوفة على الهياكل فيها لم تكن خاضعة له . وبعض العياكل كانت دويلات مستقلة لديها ما يقارب ستة الاف عبد وجارية مثل هيكل منبج وهيكل حمص . وبينما كان سكان المدن اليونانية يتكلمون الاغريقية , كان السكان الاصليون والريف يتكلمون الارامية والفينيقية , وان ظهر منهم عدد كبير من الشعراء والكتاب والفلاسفة . 
  نهاية السلوقيين
  بدأت فترة الضعف السلوقي قبل اواسط القرن الثاني ق.م . في تلك الفترة كان الانباط يستغلون الظروف ليقيموا دولتهم على هامش الدولة جنوب سوريا , وكانت مجموعات عربية اخرى تتوغل في قلب الاراضي السلوقية وتنشئ دولا محلية ( مثل بني الابجر في الرها واليطورين في عنجر وبني شمس الكرام (؟) في حمص ) . 
  ضعفت الدولة السلوقية بعد توسع الفرس 130 ق.م على حسابها ثم الارمن الذين اكتسحوا سوريا 69 ق.م . ثم جاءتها الضربة القاضية على يد القائد الروماني بومبي الذي احتل سوريا سنة 64 ق.م . وجعلها ولاية رومانية . 
  رغم بقاء الهيلينية اجنبية في سوريا , فالتمازج الحضاري ترك اثره الواضح عمرانا وفنونا وفكرا . ظهر من اهل البلاد كثير من رجال الفكر منهم زينون الصيداوي ( 333-261 ق.م ) مؤسس المدرسة الرواقية وديودورس الصوري المشاء ( اواخر القرن 2 ) وبوسيدونوس الافامي ( 135 - 51 ق.م ) وعاصره من الشعراء فيلوديموس ومليغر .  
  
 (1) ظلت ذكرى الاسكندر واحلامه العالمية ذات اصداء مترددة عدة قرون ليس لدى خلفائه فقط ولكن في العصر الروماني ايضا وفي بعض الاجواء الاسلامية . تمثاله (ا) نسخة رومانبة عن تمثال صنعه له نحاته الاثير المعاصر له ليسيبوس . اما داريوس رمز الشرق المهزوم , فقد صور وعلى وجهه الالم والمفاجأة دوما . الصورة (ب) قطعة من فسيفساء وجدت في بومبي تمثل المعركة ( موجودة في متحف نابولي ) .


 (2) جبيل كانت اول مدينة فينيقية تتحالف مع الاسكنر سنة 332 ق.م ثم كانت دوما خلال العهد الهيلينستي تضطرب نتيجة حروب البطالمة والسلوقيين . عرفت منطقتها عدد كبير من الابنية في تلك الفترة واشتدت العناية بمينائها الذي كان فيه مرفان . في الصورة المرفأ الصغير .

 (3) كانت المدن السلوقية جزرا في بحر من الحضارات والعادات والتقاليد واللغات الشرقية . تكلم سكان هذه المدن اللغة اليومانية , الا ان سكان الريف ظلوا يستعملون الارامية والفينيقية على العموم . كان من المدن الرئيسية في العصر السلوقي في بلاد الشام انطاكية العاصمة , وسلوقية واللاذقية , وافامية المعسكر الرئيسي للدولة السلوقية في شمال سوريا , وكانت هناك حلب ومنبج ودورا ( الصالحية على الفرات ) وحمص وبعلبك وفيلادلفيا ( عمان ) وابولونيا ( قرب نابلس ) وعمواس ( في غربي القدس ) وطرابلس وبيبلوس ( جبيل) وبيروت وصيدا وصور ويافا وعسقلان وغزة ورفح . وكان سكان هذه المدن من قدامى المحاربين واولادهم واحفادهم من زمن الاسكندر . ومن يونانيين ومقدونيين نقلوا اوشجعوا على الانتقال الى هذه المدن .


( 4 ) كانت صور , من مدن جنوب سوريا , تنتقل حسب نتائج الحروب بين ايدي البطالمة والسلوقيين . سمعتها التجارية وطابعها الفينيقي واصداء مقاومتها العنيدة للاسكندر لم تتغير خلال العهد الهلينستي , سمح لها ديميتريوس الثاني ( 145 - 125 ق.م ) بأن تكون مدينة مقدسة وبأن تسك نقودها الخاصة وتذكر عليها ذلك مع شعاراتها . حفريات صور الاثرية كشفت الكثير من ماضيها الفينيقي والهليني والروماني . من ذلك شارع معبد بالفسيفساء تنتصب على جانبيه اعمدة الرخام الابيض المطعم بالاخضر . وفي طرفه مبنى كبير مربع الشكل كان محاطا من جهات ثلاثة باعمدة من الغرانيت , وفي الصورة بقاياها . على 30 مترا من الشارع شيد ملعب حجري مدرج من العهد الروماني . كما انتشرت الحمامات .

 (5) حافظت سوريا خلال العهد الهلينستي على تقاليدها الحرفية التي اشتهرت بها . انطوخيوس الرابع كان يهرب احيانا من حاشيته ليزور اماكن صياغة الذهب والفضة . وظلت الاقمشة وخاصة الارجوانية من براعات هذه البلاد . وكذلك الزجاج والخزف , الجمل (ا) هو اناء للعطور من القرن الثاني قبل الميلاد وهو في المتحف الوطني بدمشق . اما ( ب ) فهو اناء صنع على النموذج اليوم\ناني بلون اسود ورسوم حمراء ويعود الى القرن الخامس قبل الميلاد , وهو موجود في المتحف الوطني ببيروت 






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق