الأربعاء، 22 أبريل 2020

المشرق وروما

  المشرق وروما 
  كانت مملكتا السلوقيين والبطالمة في القرن الاول ق.م قد دخلتا مرحلة الضعف والانهيار , شكل ضعفهما نوعا من الفراغ السياسي لم تكن روما العسكرية الطامحة لتهمل استغلاله . تدخلت في الشؤون الداخلية للدولتين وفي شؤون الدول الصغرى المنتشرة في اسيا الصغرى واليونان والجزر . كل همها انصرف الى ضمان السيطرة التجارية الكاملة عل موارد الغذاء وبضائع الترف من المشرق الغني . لكن ضعف القوى السياسية ادى الى انتشار القرصنة بشكل واسع لدرجة انه صارت للقراصنة قوتهم البحرية الدولية واساطيلهم ومدنهم الساحلية . قلقت روما واضطرت , بعد فشل عدة محاولات , الى تكليف قائدها بومبي حسم هذه المشكلة , وتعهد القائد ونجح الى حد ما في قمع القرصنة خلال ثلاثة اشهر سنة 67 ق.م . فكلفته روما بالمهمة السهلة : تنظيم المشرق . فلباها باحتلال سوريا والغاء المملكة السلوقية سنة 64-63 ق.م . وكان يعد العدة لاحتلال البتراء , لكن الحارث الثالث , المؤسس الحقيقي لقوة الانباط صده , فاحتل بومبي القدس وترك للحارث حكم دمشق . 
   البحر المتوسط بحيرة رومانية 
   بعد اثنتين وثلاثين سنة , اكتمل تطويق الامبراطورية الرومانية لشواطئ البحر المتوسط باحتلال مصر سنة 31 ق.م وانهاء المملكة البطلمية . صار المتوسط بحيرة رومانية . وسيطرت روما عل مصبات تجارة الشرق , مما اعطى سوريا ومصر شأنهما الهام ضمن الامبراطورية . كانتا مع افريقيا , عنابر الغلال الثلاثة التي تمون روما بالقمح . كما كانتا في الوقت نفسه الثغور لتلقي التوابل والبخور والافاويه والخمور والعطور والزجاج والاقمشة . وكانت البلدان العربية الاخرى من اليمن الى الانباط وتدمر والحضر والحيرة هي التي تحمل منتجات ما وراء الصحراء الكبرى الى شواطئ ليبيا وافريقيا . 
  لم يتدخل الرومان كثيرا في التكوينات المدنية والسياسية القديمة في مصر وسوريا . بقي ملوك العرب في سلطانهم . كما بقيت المدن العيلينية على دساتيرها , بينما كانت الحكومة في مصر مركزية . وكان الامبراطور بالنسبة اليها ملكا ومعبودا كالفراعنة . تجلى اهتمام الرومان بالبلدين في جعل سوريا تحت حكم نائب قنصل روماني , وفي حشد ثلاث فرق حربية في مصر , وفي تشكيل عصبة الديكابوليس ( المدن العشرة ) في شرقي الاردن , واقامة عدد من المستعمرات - الحصون عل سيف الصحراء في جنوب سوريا .
   السلم الروماني 
  كان عهد الفوضى الاخير ايام السلوقيين والبطالمة في سوريا ومصر , ثم فترة الحرب الاهلية في روما , قبل اغسطس , قد تركا اثارهما التخريبية في المشرق . لكن عهد الاباطرة الصالحين الخمسة في القرن الاول للميلاد اعاد اهدوء والازدهار الى المشرق , كما افاد توحيد تاعالم المتمدن في زيادة عدد السكان وعودة النشاط الحضاري . تنظم الري . زادت المحاصيل . قوي العمران . وتوسعت المدن خاصة في سوريا . مئات الثرى المقفرة الان صارت في تلك الفترة زاهرة . عادت حركة التجارة العالمية وقويت الحرف ( 1 ) بسبب الطلب الشديد على العطور والجلود والحلي والادوات المعدنية والاصبغة والزجاج والفخار والبردي والحرير . 
  الفنون والثقافة في المشرق 
  انعكس الفن على عمران سوريا خاصة . بلغ ذروته فيها في القرنين الثاني والثالث للميلاد . المدن الهلينستية والقديمة والمشتركة عرفت في تلك الفترة مجموعات واسعة من الابنية ما تزال بقاياها تميز اثار سوريا (2) والى حد ما الاسكندرية في مصر ايضا . بعضها مثل بعلبك (3) وبصرى (4) وجرش (5) حظيت بمجموعات بنائية لم تحظ بمثلها من قبل ولا من بعد . وقد زين كثير منها بارقى الفسيفساء . جارتها في ذلك البتراء وتدمر والحضر . كانت كل هذه الابنية من بناء السكان المحليين الذين ذهب بعض المهندسين منهم لتزيين روما نفسها مثل ابولودوروس الدمشقي . 
اسهم السوريون ايضا في النشاط الثقافي خلال العصر الروماني , ظهر منهم في التاريخ ميناند اللاذقي ( القرن الثالث ) , وفي الجغرافيا مارينوس الصوري ( اواسط القرن الثاني ) وفي الطب ارخيجينيس الافامي ( اوائل القرن الثاني ) , وفي البلاغة والفكر لوكيان السميساطي ( 125 - حوالي 200 م ) ونومينوسالافامي المؤسس الحقيقي للافلاطونية الحديثة , بالاضافة الى بابنيان القانوني الكبير ( القر 2-3 ) من بيروت وزميله اولبيان الصوري . 
  في الوقت نفسه الذي حكمت غيه روما سوريا عسكريا عدة قرون , كانت سوريا ترسل اليها بالمقابل : 
1- اسرة امبراطورية حكمتها بين اواخر القرن الثاني واواسط الثالث .
2- دينا الغى اديانها هو المسيحية .
  لم يكن حظ مصر مماثلا لسوريا . تاريخها الروماني قصة مخزية من الاستغلال وقصر النظر . كانت روما تنظر اليها كبقرة حلوب وتستغلها استغلالا ادى الى هرب الفلاحين واقفار القرى . في القرن الثالث خاصة ظهر في مصر مظاهر الانهيار والاضطراب التي شملت الامبراطورية كلها في حروب اهلية طمعا في العرش , وهجمات الجرمان وتوغلهم فيها , وتهديد الفرس , وانتشار الطواعين , واجداب المساحات الواسعة من الارض , وتضخم الاسعار الجنوني , مما مهد لسقوط روما بعد ان انقسمت امبراطوريتها شطرين : الشرقي لبيزنطة والثاني في الغرب لروما .
 (1) تزخر متاحف المشرق العربي بعدد من القطع الاثرية التي تعود للعصر الروماني وتلقي الضوء على مهارة اليد الحرفية فيه ورهافة الذوق الفني . " الخوذة " ( ا) المعروفة بخوذة حمص . لانها وجدت فيها , هي قناع من الفضة للوجه مع غطاء حديدي للرأس بينهما طوق فضي بشكل اكليل غار , وتعود الى القرن الاول , اما القطعة البرنزية (ب) فوجدت في بانياس ( الجولان ) ويطلقون عليها اسم الاميرة ولعلها من القرن نفسه . واما التمثال (ت) فهو لمينيرفا - اللات معبودة الحكمة والفنون والنصر تحمل ترسا وقد ضاع منها الرمح الذي كان في اليد الاخرى , التمثال من الحجر البركاني الاسود , وجد في السويداء ويعود الى القرن الثاني , هذه القطع موجودة في متحف دمشق .


 (2) مثل هذه المناظر الاثرية امر عادي في جميع انحاء سوريا . الغنى الناجم عن الحركة التجارية والصناعية والزراعية فيها في القرنين الميلاديين الثاني والثالث خاصة منحها الكثير من القوة . واذا كانت قوتها قد اوصلت من الناحية السياسية اسرة سورية من حمص وامبراطور من شهبا لحكم روما , فانعا من الناحية العمرانية , ملات البلاد بمجموعات واسعة من الابنية تناولت حتى البلدان الصغيرة . في زاوية جبلية محدودة من سوريا نجد مثلا , شهبا , بلدة فيليب العربي , صارت لها اسوار وابواب (ا) وحمامات ومعبد ومسرح (ب) وطريق معبدة . وبلدة قنوات بني فيها معبد للشمس (ث) في القرن الثاني ومجموعة من المعابد (ت) المزخرفة عدا المسرح والبوابة الغنية بالنقوش البارزة وعشرات اللوحات من الفسيفساء . يتكرر ذلك في السويداء وبلدان سليم والمشنف وفي بصرى . كل ذلك في رقعة محدودة لا تجاوز 20-30 كم طولا وعرضا ويتكرر الامر نفسه في انحاء فلسطين والاردن ومناطق سوريا الاخرى .


 (3) بعلبك هو الاسم القديم الارامي ( بعل بعقوتو = اله البقاع ) للمدينة التي سميت خلال العهد الهيليني - الروماني هليوبوليس (= مدينة الشمس ) . المعبد الذي اعطى بعلبك الى اليوم شهرتها الضخمة كان في الاصل لعبادة حدد معبود الاراميين . بدأ توسيع المعبد في اواسط القرن الثاني م . وعني به كل العناية الاباطرة السوريين الذين جعلوه غاية في الفخامة والروعة . خربته الهزات الارضية , فتحول بعضه الى قلعة ايام الاسلام .


 (4) بعد ان اضحت بصرى سنة 106 عاصمة للةلاية العربية , ارتفع شأنها كثيرا . واغدق عليها الامبراطور سبتميوس سيفروس الوان الرعاية . ثم رفعت الى رتبة مستوطنة رومانية . صارت سيدة مدن المنطقة , عاشت عصرها الذهبي , بني فيها اروع واكمل مسرح حجري في سوريا في ذلك العصر . يتسع مدرج القاعدة الحجرية لاكثر من 15 الف مشاهد , المسارح الاخرى في جبيل وتدمر وافامية وغيرها اصغر منه .
 (5) موقع جرش قديم السكنى يعود الى العصر الحجري الحديث , برزت كبلدة صغيرة في القرن الثاني ق.م , وعني بها السلوقيون حتى صارت بلدا هاما 
(6) الفسيفساء كان في العهد الروماني صناعة سورية بامتياز . كثر استخدامه وكان صناعة احيانا من الرهبان او العبيد او الجنود . تفننوا في تصغير حجم قطعه المرصوفة وتلوينها واتخاذها من الحجر او الزجاج او الخلائط المعدنية مع الذهب . وكثير من المواضيع التي طرقوها كانت تتناول بعض الاساطير الاغريقية . كالوحة التي تعود الى القرن الثاني وتمثل ارتميس معبودة الصيد .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق