الثلاثاء، 4 أكتوبر 2016

الاسكندرية في العصر الهلينستي

  ادت فتوحات الاسكندر ( 333 - 323 ق.م) الى منح الشرق صبغة هلينية في الثقافة والدين والعادات والتزاوج . وقد بنى عددا من المدن منها الاسكندرية (1) ( سنة 332 ق.م) التي سرعان ما اصبحت , بجانب مركزها التجاري على البحر المتوسط , مركزا للعلم والفكر اليونانيين , ةلالتقاء ذلك كله بالثقافان الشرقية ( المصرية والفينيقية والعبرانية ) . هذا المزيج الحضاري هو ما اصطلح على تسميته بالحضارة الهلينستية التي حاول الاسكندر نفسه ان يكون رمزا لها ومات قبل تحقيقها . 
  عني البطالمة كل العناية بالاسكندرية . اسس اولهم مكتبتها المشهورة ( 500 الف طومار جلدي ) التي ظلت على ازدهارها حتى عصر الميلاد , ثم تدهورت واصابها الحريق اكثر من مرة , كانت شهرتها في العالم القديم لا تقل عن شهرة منارة الاسكندرية التي اعتبرت احدى عجائب الدنيا السبع . دعا بطليموس الثاني علماء اليونان اليها ( مثل دميتريوس الفالروني واستراتون 270 ق.م الذي اسس النزعة العلمية المادية فيها ) .
  بلغت الاسكندرية في العهد الهلينستي البطلمي اوج ازدهارها الثقافي الذي امتد الى العهد الروماني . ثم اخذت ثقافتها بعد القرن الثاني الميلادي المنحى الديني , اذ لعبت دورها في فلسفة الوثنية والمسيحية واليهودية . بنيت سمعة الاسكندرية العلمية على جهود عدد من كبار علماء العصور القديمة الذين كانوا خليطا من شعوب مختلفة وان كان اكثرهم من الاغريق . 
  في الهندسة :
  كان اعظم رجال العلم الاسكندري هو اقليدس ( ولد في اثينا وجاء الاسكندرية حوالي سنة 300 ق.م) . كتابه الشهير " الاصول " او  " العناصر " ( 2 ) ترجم الى معظم لغات العالم وبقي حتى القرن الماضي اساس علم الهندسة . وقد ترجم مرتين في عصر الرشيد والمأمون الى العربية , وغطى على الكتب الاخرى في مادته . 
  في الفلك : 
  برز اريسترخوس ( 300 - 225 ق.م ) الذي كشف ان الشمس هي محور دوران الكواكب , وايراتوستين الذي قاس محيط الارض ( 3 ) ثم بطليموس الاسكندري ( اشتهر حوالي 151 - 127 ق.م ) اوسع علماء الفلك شهرة . كتابه المجستي ترجم في عصر الرشيد ايضا وبقي المرجع العلمي حتى بداية العصور الحديثة . 
  في العلوم الطبيعية : 
  اشهر اسم في في تاريخ الفيزياء والميكانيك القديمين هو ارخميدس الذي ولد في صقلية وتوفي 212 ق.م وقد اقام فترة في الاسكندرية . اشتهر كذلك بكتسيبوس ( حوالي 270 ق.م ) الذي اخترع عددا من الالات كمضخة الضغط والارغن المائي والساعة المائية , وفيلون البيزنطي الذي قدم في كتابه ( الحيل ) عددا من المبتكرات العسكرية تابعها من بعده هيرون الاسكندري في القرن الاول . 
  في الطب والتشريح : 
  اتبع الطب الاسكندري مدرسة هيبوقراطوس ( 5 ) . ظهر عدد كبير من الاطباء والعلماء في التشريح ووظائف الاعضاء اهمهم : هيروفيلوس الخلقيدوني مؤسس علم التشريح . كان اول من وصف الدماغ وميز المخ عن المخيخ والاوتار عن الاعصاب والشرايين عن الاوردة , كذلك وصف عدد من الحواس ومن الاعضاء الداخلية , وخالف ارسطو حين اعتبر الدماغ لا القلب مركز الادراك . واصل تلميذه ايراستراتوس ( ولد سنة 304 ق.م ) اعماله . لمع في القرن الثاني سيرابيون الاسكندري , مؤسس المدرسة التجريبية في الطب , لكن اعظم اطباء الاسكندرية اطلاقا هو جالينوس البرغامي ( 1309 - 200 م ) الذي درس اولا في اسيا الصغرى , وبعد ان طوف في سوريا , استقر زمنا في الاسكندرية , قبل ان يذهب سنة 164 الى روما , ثم الى صقلية . ينسب اليه ما لا يقل عن 400 مؤلف في الطب والفلسفة والعلوم , اشتهرت منها كتبه الطبية الستة عشر التي ترجمت في عهد المأمون الى العربية وكانت دستور الاطباء .
  انعكست بوادر الانهيار البطلمي على الاسكندرية في القرن الاول ق.م . ثم صارت مصر ولاية رومانية , وتحولت الاسكندرية بلدا خليطا جامعا . وعرفت الازدهار , ولكنها عادت الى التراجع وخاصة بعد انتشار المسيحية وصعود نجم انطاكية . 
  في عصر الميلاد , كانت الاسكندرية معثلا من المعاقل الكبرى للوثنية في العالم القديم . ومجال تفاعل وجدل بينها وبين التوحيد اليهودي . ظهر ذلك في اعمال ارسطوبولس ( حوالي 150 ق.م ) . ثم خلفه فيلون الاسكندري ( 30 ق.م - 50 م ) الذي حاول التوفيق ما بين الفلسفة اليونانية في شكلها الافلاطوني وبين العقيدة اليهودية , فمهد بذلك لقيام الافلاطونية المحدثة التي ظهرت على يد امونيوس ساكاس ( 175 - 242 م) وطبعت الفكر اليوناني المتأخر ثم الفكر المسيحي ثم الفكر الاسلامي بطابعها الخاص . 
  كانت المسيحية قد انتشرت في الشرق وفي مصر حين جاء افلوطين ( 205 - 270 ) الوثني اخر فلاسفة اليونان الكبار ومعاصره اوريجينوس ( 185 - 254 ) المسيحي . عمل الاول على الافلاطونية المحدثة , والثاني على هلينة المسيحية وفلسفتها حتى اصبحا رائدي اللاهوت الكلاسيكي الوسيط . 
  لعبت الاسكندرية دورها بعد ذلك في الجدل حول طبيعة المسيح . كان اريوس صاحب المذهب الاريوسي قسيسا في كنيستها . كذلك كانت اراء اسقفها اثناسيوس ثم خلفه كيرلس هي الاساس الذي قامت عليه الكنيسة الارثوذكسية القبطية .  
(1) الاسكندرية اسم يطلق على اكثر من مدينة واحدة من المدن التي بناها الاسكندر المقدوني موزعة في الشرق . اسكندرية الساحل المصري هي اشهرها واهمها , موقعها (ا) كان _ ومايزال _ يمتد في شريط ساحلي ضيق بين البحر الابيض المتوسط وبين بحيرة مريوط . كان يقابل الساحل جزيرة صغيرة قريبة هي جزيرة فاروس . امر الاسكندر بردم الشقة البحرية الفاصلة بينها وبين البحر بجسر ( 1200م ) سمح بظهور مرفأين للمدينة . كان مخطط المدينة ذا شوارع متعامدة . ومدت للاسكندرية قناة تأتيها بالماء من النيل , حوالي سنة 270 ق.م اقيم على جزيرة فاروس برج - منارة (ب) بناه المهندس سوسيتراتوس . بقي قائما حتى القرن الرابع عشر الميلادي . كان بارتفاع 120 مترا ( او اكثر قليلا ) تشتعل فيه نار يراها البحارة على بعد 50 كم . شهرة هذه المنارة لم تعط فقط اسمها للجزيرة ( فاروس = المنارة ) ولكنها ذهبت في العالم لدرجة جعلتها احدى عجائب الدنيا السبع . ورد ذكرها دوما في الكتب القديمة عند الكلام عن الاسكندرية . اوفى وصف لها بالعربية يرد في كتاب الالفباء ليوسف بن محمد البلوي المعروف بابن الشيخ الماقي ( 1132 -1207 ) الذي كان يقيم في الاسكندرية قبيل وصول صلاح الدين الايوبي اليها . يؤخذ من وصفه ان المنارة كانت قائمة على منصة تعلو سطح البحر 12 قيراطا وتتألف من ثلاث طبقات . يبلغ محيطها عند السفح 180 ذراعا . اما ارتفاع الطبقة الاولى فكان يعادل 71 مترا . وكانت تتألف من 50 حجرة او منفذا بنيت في جدارها . ويصعد المرء الى الطبقتين الثانية والثالثة بسلمين حجريين ( 32 و 18 درجة ) 


(2) صفحة من الطبعة الانجليزية الاولى لكتاب اقليدس ( النصف الاول من القرن الثالث ق.م ) العالم الرياضي الشهير التي ظهرت في لندن سنة 1570 (ا) . اما الصفحة العربية (ب) فهي مأخوذة من شرح نصير الدين الطوسي ( توفى 1274 ) , الفلكي والفيلسوف الشهير , وهو من اول الكتب المطبوعة ( روما سنة 1574 ) 

(3) توصل علماء الاسكندرية الى الاعتراف بكروية الارض فسعوا السعي الحثيث لتحديد قياساتها . الغالم ايراتوستين ( ولد في برقة حوالي سنة 284 ق.م  وتوفي بالاسكندرية حوالي سنة 194 ق.م) حقق هذا الموضوع بأبسط الطرق . افترض ان الاسكندرية واسوان على خط طول واحد . ولما كانت تفصلهما 5 الاف غلوة , فانه قاس ميل اشعة الشمس , يوم الانقلاب الصيفي في كل من البلدين , واستخرج قياسا لمحيط الارض ليس بالبعيد عم الواقع . ومدد خطوط الطول والعرض ووضع خريطة عامة للمسكونة تلفت النظر بقلة اخطائها في السواحل المتوسطة واسيا الصغرى . كان ايراتوستين رياضيا فلكيا لغويا مؤرخا شاعرا , ولكنه في نظر معاصريه في القرن الثالث للميلاد , كان العالم الاول في الجغرافيا , لكن اسمه لم يشتهر شهرة بطليموس القلوذي بعده صاحب المجسطي , الذي اضحى ابرز ممثلي مدرسة الاسكندرية في الجغرافيا الفلكية .


(4) كان الجدل الديني الفلسفي في القرن الرابع الميلادي في اوجه . الامبراطور جوليان ( 361- 363 ) اسهم في الجدل والمحاضرات ( الصورة ) كان يعتنق الافلاطونية الحديثة . نشطت الوثنية في عهده لانه اقام كنيسة لعبادة الشمس وجعل لها الكهنة وجعل نفسه رئيس الكهنوت . ترك كتابات كثيرة منها كتابه ( ضد المسيحية ) الذي نعرفه من الردود التي رد بها عليه كيرلوس بطريق الاسكندرية . 


(5) هيبوقراط ( 460 - 377 او 359 ق.م ) ويسميه العرب ابقراط هو اشهر طبيب في العصور القديمة ويسمونه بابي الطب . يقولون ايضا انه عاش 95 سنة . تعلم الطب حتى بلغ 16 سنهة واقام يعلمه 79 سنة ! تميز بطريقته التجريبية . ينسب اليه " القسم " الذي يقسمه الاطباء عند مزاولة المهنة وكان سببا اخر في شهرته . هذا التمثال لارقراط في غاليري افيزي في فلورنسا .






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق