الجمعة، 14 أكتوبر 2016

الاترسكيون

ان المعلومات المتوفرة عن الاترسكيين هي اقل بكثير من تلك المتوفرة عن معاصريهم اليونان والرومان . السبب في ذلك يعود , بصورة رئيسية , الى ضياع ادبهم . ومع ان كتاباتهم تكاد تقتصر على نقوش جنائزية مقتضبة , فاثارهم المادية الاخرى توفر مجالا واسعا جدا للابحاث الاثرية . 
  اصول الاترسكيين 
  يبدو ان الجدل الطويل حول اصل هذا الشعب قد قارب نهايته , بدأ هذا الجدل منذ عهد المدونان القديمة : فقد اعلن هيرودوتس ان الاترسكيين ابحروا من ليديا في بلاد الاناضول , لاستعمار منطقة جديدة في الغرب , وذهب ديونيسوس الهاليكارناسي الي انهم من اصل ايطالي . واليوم يتمتع كل من هذين الرأيين بالقبول , وكلاهما يعتبر صحيحا الى حد ما على الاقل . 
  ويبدو انه قد اصبح مقبولا الان , اكثر من اي وقت مضى , القول بتحدر المدن الاتروسكية ومقابر اوائل القرن السابع ق.م في فيلانوفيا ( شمالي ايطاليا ) , عن المستوطنات التي كانت قائمة فيها ( بين 1100؟ - 700 ق.م ) وعن مقابر القرن التاسع ق.م , يمكن تتبع اثار معظم السكان وجزء كبير من الحضارة الى ما قبل ذلك التاريخ , اي حتى العصر البرونزي . لكن من ناحية ثانية , يمكن ان تكون الافكار والملامح الثقافية الجديدة التي ظهرت في تلك الحقبة قد اتت على عدة مراحل , مع مجموعات المهاجرين الجدد . 
  كانت النتيجة ازدهارا حضاريا عظيما في القرنين السابع والسادس ق.م , بني على اسس محلية , اعتمدت بدورها على وفرة الموارد المعدنية في اتروريا المعروفة باسم توسكانا (1) , ولكنه تأثر كثيرا باليونان والعديد من بلدان شرقي البحر المتوسط . والواقع ان هذا التنوع يعطي حجة قوية ضد رواية هيرودوتس عن موطن الاترسكيين الاصلي في ليديا . 
  لا تزال الحضارة الاترسكية بمجملها لغزا محيرا , فالانطباع العام الذي تعطيه هو يوناني بشكل واضح . لكن التمعن الدقيق بالتفاصيل يبين انه مهما كان التأثير اليوناني كبيرا , فلقد تم تحويله وتمثله بشكل تام . كما انه تطعم بالاشكال الاسيوية الاخرى , مثل العرافة وتشييد الاضرحة , ورافقه تطوير صناعة محلية بحته , كصناعة الفخار الاسود الجيد المعروف باسم " بوكيرو " . كل هذا يسمح للمؤرخين ان ينظروا الى الحضارة الاترسكية بوصفها حضارة قائمة بذاتها , وليس مجرد نسخة اقليمية عن حضارة اليونان . فضلا عن ذلك , يبدو ان الشعبين كانا سياسيا عدوين لدودين , اذ كان شغل الاترسكيين الشاغل هو محاولة منع اليونان من دخول البحر التيراني . وفي احدى المعارك البحرية طرد اليونان من كورسيكا عام 535 ق.م وذلك في ذروة سيطرة الاترسكيين السياسية . 
  لعب الفينيقيون دورا في هذه الاحداث ايضا . كوسطاء بين اتروريا والشرق . كانت العلاقات السياسية , في هذه الحالة , اكثر ودية , اذ كانت اتروريا وقرطاجة , في اغلب الاحيان حليفتين ضد عدوهما المشترك اليونان . ففي بيرجي , وهي ميناء في تشرفيتيري , عثر على تقدمة الى المعبود يونو , اي عشتروت , وقد حفر على لوحتها الذهبية نصان متقابلان , احدهما بالفينيقية والاخر بالاترسكية . 
  دلائل على اللغة 
  لعبت اللوحات التي وجدت في بيرجي دورا كبيرا في تحسين معرفتنا باللغة الاترسكية , وهي اهم رابطة وحدت بين الشعوب الاترسكية . وبما ان هذه الشعوب كانت قد اقتبست الابجدية اليونانية , دون تغيير يذكر , لم ينطو تحليل رموز كتاباتها على صعوبات كبيرة . لان جميع محاولات التقريب بين تلك اللغة ولغة معروفة اخرى باءت بالفشل . ويبدو ان هذه اللغة كانت الوحيدة الباقية من لغات التخاطب قبل دخول اللغة الهندواوروبية الى المنطقة . لكن مقدرة العلماء على ترجمة هذه اللغة زادت شيئا فشيئا , ابتداء ببعض النقوش على القبور مثل عبارة " س ابن ج , عمره ن " لكن النصوص الطويلة القليلة الباقية هي وثائق طقوسية غامضة . ولا نعلم حتى الان سوى معناها العام . اطول هذه الصوص المكتشفة , حتى الان , مكتوبة على القماش . 
  الحضارة الاترسكية 
  بالرغم من ان اللغة وحدت بين الاترسكيين , فلم تكن لهم وحدة حضارية تامة . كان ثمة فروق واضحة ( كما في هندسة القبور ) بين مختلف المدن الاترسكية , مما سعكس استقلالها السياسي . لكنها جميعا تعطي انطباعا عن شعب نشيط سعيد , له فن جرئ جميل . ومع ان الكثير من الادلة مستمد من القبور ( 2,7) , فالصورة التي لدينا ليست قاتمة على الاطلاق . كانت هياكل الاترسكيين ومدنهم ايضا مثيرة من الناحية المعمارية . وكانت الهندسة المدنية عندهم ذات مستوى رفيع . فقناة الملاحة في كوزا , وتحويل الجداول لتجري تحت الارض , منعا لتعرية التربة , وطريقة حفر الانفاق للانهار لتمر تحت الطرق عوضا عن بناء الجسور فوقها , كل ذلك يبرهن على هذه المهارات . 
  ان ما تبقى من الحضارة الاترسكية موجود في المواقع والمقابر الرومنطيقية الخربة , وفي مجموعات المتاحف الكبرى التي انتزعت تحفها من هذه المواقع . لكن مكانة الاترسكيين في التاريخ ثابتة , بفضل مساهمتهم في الحضارة الرومانية .
(1)كانت اراضي الوطن الاترسكي تقع بين نهري الارنو والبو الادنى , هناك نشأت حضارتهم المميزة وبلغت ذروة تطورها . لقد بلغت السلطة الاترسكية , في اوج ازدهارها حوالي 535 ق.م , سفوح جبال الالب وامتدت جنوبا حتى خليج سالرنو , لكنها لم تكن امبراطورية , بل كانت تحالفا واهنا من الدول _ المدن المستقلة بدون حدود مشتركة . 
(2) حفر " قبر النحوت النافرة " في تشيرفيتيري في الصخر الصلد , ويمثل غرفة في منزل له سقف ذو عوارض قائم على اعمدة ذات رؤوس ايونية اصلية . ثمة ثغرات في الحائط للاسرة , وقد اضيفت اليها اسرة جنائزية لكل منها وسادتان , ولبعض منها موطئ قدم وخف , وكأنه ينتظر صاجبه . فوق الثغرات , قطع من الدروع والاسلحة معروضة بشكل نافر , منها تروس وخوذ وصفائح للارجل وسيوف . زينت الاعمدة الوسطى بعدة اشكال من الادوات والاواني المستعملة في الحياة اليومية . القبر الظاهر هنا فريد من نوعه . 
(3) هذان الزوجان منحوتان بحجم طبيعي على غطاء تابوت من الفخار المشوي . وجدا في تشرفيتيري بايطاليا قرب كابري .
(4) كانت علب المجوهرات البرونزية لدى الترسكيين تحتوي على مقتنيات النساء الخاصة والجواهر وادوات الزينة . وكانت مزينة بمشاهد اسطورية ومزودة بقوائم ومقابض من حديد . في هذا النموذج البديع من باليستريا ( 300 ق.م ) نقش يمثل بيليروفون ممسكا بحصان مجنح 
(5) كان تمثال ابولون قائما , مع تماثيل عطارد وهرقل ولاتونا , على حافة سقف هيكل بورتوناتشيو في مدينة فايي . اسم النحات هو فولكا , وقد صنع تمثالا لابولون من الفخار المشوي حوالي 500 ق.م . يختلف هذا التمثال عن تماثيل ابولون التي خلفها اليونان . من الواضح ان الاترسكيين كانوا يدينون بالكثير لليونان , ولكنهم عبروا عن كل ما اقتبسوه بطريقتهم الخاصة . 
(6) كانت المرايا المصنوعة من البرونز المصقول تساعد النساء الاترسكيات على الاهتمام بزينتهن , كان ينقش في الغالب على الجهة الخلفية من المرايا الشبيهة بهذه ( 540 ؟-530 ق.م ) مشاهد اسطورية , مثل النقش على هذا النموذج الذي يمثل اريون يقطع البحر . وكانت المرايا من المقتنيات التي تدفن عادة مع الميت 
(7) كان النمط التركويني من القبور عبارة عن حجرة مستطيلة حفرت في الصخر , يدخل اليها عبر ممر منحدر . كانت الحجر تطلى بالكلس وتزين بمشاهد زاهية رائعة الجمال والمعنى . في نهاية حائط " قبر القنص والصيد " ( حوالي 520 ق.م ) يحتل المأتم الجنائزي السقف الهرمي , ونحته افريز من اكاليل الحداد . تقفز الاسماك حول الرجال في زورقهم من كل جانب ويحاول صياد يقف على الشاطئ اصطياد احد العصافير الزاهية الالوان التي تغطي السقف , كانت الوليمة الجنائزية موضوعا فنيا شائعا , تضاف اليها في بعض القبور الاخرى رسوم جدارية تمثل الرقص والمباريات الرياضية المقامة تكريما للاموات . 
(8) بلغت صناعة المجوهرات مستوى عاليا من التطور , في الحضارة الاترسكية . كان الاترسكيون صاغة مهرة بصورة خاصة , وقد بقي لنا عدد من القطع البديعة تزينها نقوش دقيقة . هذا المشبك او الدبوس يعود الى مابين 700 و600 ق.م وهو قطعة فاخرة تدل على الجودة والابداع اللذين بلغهما الفن الاترسكي . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق