كانت قرطاجة , بسبب موقعها الجغرافي في افريقيا وغناها التجاري وامبراطوريتها الواسعة , هي الدولة التي سوف تتلقى الصدمة الاولى من الرومان . يوم كانت روما مدينة ضعيفة , التمست من قرطاجة التجارة معها وعقدت معاهدتين تجاريتين سنة 508 ثم سنة 348 ق.م , بل تحالفت روما مع قرطاجة حين جاء الاغريق لمعونة سيراقوسة اليونانية في صقلية ( 278 -276 ق.م ) . لكن الامر سرعان ما تغير , حين ارادت روما الاستئثار بصقلية ذات الموقع الاستراتيجي الهام للسيطرة على تجارة البحر المتوسط , كان ذلك مطلع الشر , وبدء سلسلة العدوانات التي سمتها روما بالحروب الفونية ( البونيقية = الفينيقية ) , وهي ثلاث فترات من الحروب , انتهت بحرث الارض التي تقوم عليها قرطاجة . الحروب البونيقية الاولى ( 264 - 241 ق.م ) سببها المباشر اشتباك جماعة من اهل ميسنا التابعة لقرطاجة في خصومة مع سيراقوسة , فاستنجدوا بقرطاجة اولا , فلما لم تنجدهم ’ استنجدوا بروما التي رحبت واحتلت المدينة . ثم ما لبثت ان اجبرت سيراقوسة على التحالف معها وتجهيز اسطولها بالسفن وبدأت الحرب مع قرطاجة سنة 264 ق.م . قاتل الرومان للاحتفاظ بصقلية عشرين سنة . وانتهت الحرب بهزيمة الاسطول القرطاجي ( معركة جزر ايغاتس سنة 241 ق.م ) وتخلي قرطاجة نهائيا عن صقلية , لجعلها ولاية رومانية مع دفع غرامة 3200 وزنة ذهب مقسمة على عشرين سنة . الدرس الذي اخذته قرطاجة من هذه الحروب هو عدم الثقة بالقوى البحرية والمرتزقة من حهة , واليأس من التعايش السلمي مع روما من جهة اخرى , لا سيما حين اتبعت روما ذلك قرطاجة من جزيرتي كورسيكا وسردينيا , مستغلة ظروف الثورة التي قامت فيها ( 241- 238 ق.م ) ضد الصلح المهين . الحروب البونيقية الثانية ( 218 - 202 ق.م ) انكمشت خطوط قرطاجة البحرية بعد الحروب الاولى , فوجهت همها للتوسع البري في اسبانيا . كانت قرطاجة موجودة هناك منذ القرن 11 ق.م , ولكنها واجهت في تلم الفترة بعض المتاعب مع الايبيريين , بعد ان وصل الرومان هناك . وخسرت سنة 228 ق.م واحدا من كبار قوادها هو : هملقارت الذي اسس بلدة قرطاجة في ايبيريا في سبيل تأمين مناجم الفضة والذهب والقصدير التي تحمل لقرطاجة الثروة الهائلة . لكن روما استغلت احتلال القائد القرطاجي الشاب حن بعل ( هانيبال ) سنة 226 ق.م لمدينة ادعت ان فيها جالية رومانية فاعلنت الحرب , كانت تطمع هذه المرة في اسبانيا . اثبت ( حن بعل ) عبقريته العسكرية التاريخية في هذه الحرب . نقل جيشه ( 40 الف مع 500 فيل ) عبر اسبانيا وجنوب فرنسا وجبال الالب , وهزم الرومان على اراضيهم في ثلاث معارك متوالية ( 218 , 217 , 216 ق.م ) وضرب الحصار على روما سنة 211 ق.م . ظل يحارب هناك 14 سنة , خذلته قرطاجة في الامداد . نجح الرومان في قتل صهره صدر بعل في اسبانيا واخرجوا قرطاجة منها , ونقلوا في النهاية الحرب الى افريقيا سنة 204 (2) . فاستدعته قرطاجة للدفاع عنها . في معركة زاما التي قامت بين حن بعل وبين القائد الروماني سيبيو ( الذي عرف من بع بالافريقي ) (3) سنة 202 , وانضم فيها ماسينيسا ملك نوميديا (المغرب) الى الرومان , لم ينجح حن بعل في احراز النصر , فتخاذل مجلس الشيوخ في قرطاجة وطلب الصلح . واملت روما شروطها : مسخ اسطول قرطاجة الى عشر سفن فقط (4),وتخلي قرطاجة عن اسبانيا , وان لا تحارب قرطاجة حلفاء روما الا بأذنها , بالاضافة الى عشرة الاف وزنة غرامة حربية , وتوسع ملك نوميديا على حساب الاراضي القرطاجية . طاردت روما حن بعل بعد ذلك حتى غادر قرطاجة , ولجأ الى السلوقيين في سوريا . ثم هرب مرة اخرى الى ملك صغير على البسفور . فلما شعر انه يفاوض الرومان لتسليمه انتحر سنة 183 ق.م . الحرب البونيقية الثالثة ( 149 - 146 ق.م ) كان سببها المباشر توسع ملك نوميديا في الاراضي القرطاجية ووقوف قرطاجة للدفاع عنها . والسبب الحقيقي عودة النشاط والغنى الى المدينة المهزومة , وفي سنة 149 ضرب الجيش الروماني الحصار عليها , ودافعت بشراسة وبطولة كبرى عن نفسها , ولكنها في النهاية انهارت امام الدمار والحريق والقتل . وامر سيبيو ( الثاني ) بحرث ارضها بالمحراث ورشها بالملح كي لا تزرع , وصدر قرار مجلس الشيوخ الروماني بلعن الارض ومن يعيد بنائها (5) . انتهى الحقد تاروماني بتحول افريقيا ولاية رومانية , وبسط الحماية على مملكة نوميديا ايضا التي اصبحت مفتوحة لتجارة الرومان مع البربر . منيت نوميديا بالتقسيم اكثر من مرة بين ورثة الملك . لكنها توحدت مرة تحت حكم يوغرتا ( 150 - 104 ق.م ) الذي اراد ان يوحد المغرب كله . واحتل سرت . وارسلت عليه روما حملتين تأديبيتين لم تستطيعا النجاح ضده . الى ان قاد ماريوس الروماني حمله ( سنة 107 ق.م ) هزمه فيها واسره . وعند ذلك ضمت نوميديا الى الامبراطورية المتوسعة . | (2) على هذا المصور , في اسهمه المتوالية تظهر تحركات حن بعل في المغامرة الحربية التي طوق بها الحوض الغربي للبحر المتوسط وعبر بالافيال جبال الالب وقاد فيها , دون امداد , معارك دامت قرابة خمس عشرة سنة وتخللها حصار لروما مرعب ثقيل لم تعرفه في تاريخها كله الا عند انهيارها الاخير . (3) سيبيو ( او سيبيون ) اسم اسرة قديمة لامعة في روما اشتهر منها اثنان في تاريخ الرومان اولهما ( الصورة ) سيبيو الذي عرف بالافريقي ( 235 - 183 ق.م ) لانه انتصر على القرطاجيين اولا في اسبانيا في الحرب البونيقية الثانية ثم انتصر على حن بعل في معركة زاما سنة 202 ق.م , اتهمه اعداؤه بعد ذلك بابتزاز اموال الامة فصاح " ايها الرومان في مثل هذا اليوم انتصرت على حن بعل وقرطاجة , لنصعد الى الكابيتول ونقدم الشكر للالهة " لكن ذلك لم ينفعه , مات في المنفى في ليترن , بعد ان كتب كلمته المشهورة : " ايها الوطن الناكر للجميل , لن تكون لك عظامي ! " سيبيو الثاني يعرف باسم سيبيو ايميليانوس ( 185 - 129 ق.م ) وبالافريقي الثاني وهو ابن احد الاولاد الذين تبناهم الابن البكر لسيبيو الاول . كان زعيم الحزب الاستقراطي . قاد الحرب الاخيرة ضد قرطاجة وهو الذي دمرها واحرقها سنة 146 ق.م , ملت بشكل غامض خلال مناقشة القانون الزراعي الذي قدمه الاخوة غراكوس , وكان ضد هذا القانون . (4) مركب حربي روماني في لوحة فسيفساء من القرن 2 م . تمثل اسطول روما . قد يكون من التناقض القول ان روما انتصرت عبر البحار بل حافظت ايضا على امبراطورية البحر المتوسط دون ان يكون لديها اسطول حربي حقيقي . لانها كانت تعتمد بالدرجة الاولى على قوتها الحربية البرية . كانت عنايتها بالاسطول تأتي في فترات متقطعة تحت ضغط الحاجة الحربية العابرة . من ذلك انها اوجدت لنفسها اسطولا في حربها ضد قرطاجة مستعينة بمدن وبحارة ايطاليا الجنوبية التي اخضعتها . في علاقتها باسبانيا اعتمدت على مرسيليا . في حروبها في المشرق كانت تستعين باساطيل جزر بحر ايجه . لكنها لم تكن تتعهد هذه الاساطيل بعد زوال الحاجة اليها وكانت تتعرض في ذلك لمفاجأت مؤلمة ( كما حدث في الهجوم الذي دبره ضدها ميتريدان سنة 88 ق.م ) وكثيرا ما كانت تتغاضى عن الاثار السيئة للقراصنة على التجارة المتوسطية وعلى هيبة روما نفسها . كانت تحاول - وقد حققت كثيرا من النجاح - قمع القرصنة بحراسة الطرق والمسالك البحرية مما سمح للتجارة البحرية في المتوسط ان تزدهر في عهد الامبراطورية . لكن حجم السف بقي متوسطا محدودا . لم يحاول الرومان ان يطوروا سوى السفن التي تحمل لهم التموين من مصر . هذه المراكب كانت تخضع لتصميم خاص . وبعضها كان يبنى لنقل مسلة فرعونية او تمثال لا يقل عن 500 طن بقطع النظر عن صابورة السفينة التي كانت تبلغ احيانا 800 طن وهي على الاجمال من العدس , بعد ان سيطرت روما على حوض المتوسط حاولت ان تمد نفوذها الى المحيط الهندي ( في حملة ايليوس غالوس ) ولكنها كانت ايضا حملة برية لا بحرية وفشلت . (5) معركة قرطاجة الاخيرة , سنة 146 ق.م سجلها التاريخ واحدة من اعمال البطولة الخالدة في الدفاع والاباء , لم تستطع كل وسائل روما في الدعاية الحاقدة ان تغطيها . حين نجح الرومان في اقتحام الاسوار , ذبحت المدينة , الناجون وهم حوالي 50 الفا بيعوا في اسواق العبيد . ونقلت تماثيلها وثرواتها الغنية الى روما مع الغزاة . بعد ان هدمت اسوار المدينة وقصورها والاسواق وحرثت ارضها , لم يسلم من عملية التدميرالجذري سوى القبور (ا) وهكذا لا نستطيع ان نتبين ما كان عليه الفن القرطاجي الا من خلال اللقى الصغيرة والحاجيات الحياتية , وهي في معظمها خلو من الشأن الفني , ومنها الاقتعة (ب) المتخذة من الخزف . ونماذج المهبودات (ت) . على ان قرطاجة عادت من جديد الى الحياة والنشاط التجاري تحت الحكم الروماني وبقيت لها فقط معبوداتها , كما بقيت لغتها منتشرة في افريقيا حتى القرن السادس . |
الثلاثاء، 13 ديسمبر 2016
قرطاجة و روما
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق