حوالي عام 1200 ق.م , طرأ تغيير رئيسي على الحضارة اليونانية . فقد زحفت قبائل دورية عبر شبه الجزيرة من الشمال واستقرت بشكل رئيسي في البيلوبونيز ممتصة الشعوب الموجودة هناك او حاصرة اياها في مناطق ضيقة . نتيجة لذلك , اضطر الايونيون والايوليون بصورة خاصة الى الاندفاع عبر البحر , فأسسوا مدنا لهم في اسيا الصغرى (1) .
تطور المؤسسات لا بد ان تكون تغيرات اجتماعية كبرى قد رافقت هذا التحول . ولكن تفاصيل ما جرى في ال 400 سنة التالية تكاد تكون مجهولة , والكثير مما نعرفه عنها مستمد من ملحمتي هوميروس " الالياذة " و " الاوديسا " . ومع ذلك , بامكاننا تحديد عدد من التطورات الهامة التي كان لها شأن كبير بالنسبة للحضارة اليونانية اللاحقة . فقد انتشر استعمال الحديد في صنع الالات والاسلحة (4) , واقتبست ابجدية صوتية عن الفنيقيين اصبحت قياسية الى حد ما , وانبثق الشعور بالوعي القومي , اي ذلك الشعور بهوية عنصرية وفكرية جاءت تعبر عن لفظة هيلاس الدالة على العالم اليوناني بأسره . في الوقت نفسه نشأت مجموعة من المعبودات عكستها اشعار هوميروس , وتطورت المراسم الدينية , وازدادت اهمية المعابد , مثل معبد دلفي . واصبحت الدولة - المدينة اهم وحدة سياسية واقتصادية واجتماعية في البلاد . لعبت جغرافية اليونان الوعرة دورا رئيسيا في حمل سكان كل واد من الاودية , على اعتبار انفسهم كيانا مستقلا , حتى غدت بلاد اليونان تبدو كمجموعة من الرقع , التي تمثل دويلات تحافظ كل منها على استقلالها بحماس كبير (5) . اثر حجم الدولة - المدينة على التطور السياسي اليوناني , اذ رسخ الاعتقاد بانه لكي تكون الوحدة السياسية صالحة , يجب عليها ان تكون صغيرة , وذات استقلال تام . كان لليوناني عدد من الولاءات , لهيلاس ولمدينته ولقبيلته الداخلة في اطار الدولة , الا ان ولاءه للمدينة كان الاقوى . لذلك لم تنشأ في اليونان فكرة الوحدة السياسية الكبرى قط . في هذه الحقبة ايضا توصل اليونانيون الى الاعتقاد بان الحكومة ينبغي ان تقوم على اطار دستوري وقانوني معروف ومحدد . الزراعة والتجارة والسياسة كانت الزراعة ذات شأن كبير من الناحية الاقتصادية العامة , ورغم نشؤ المدن وتوسعها , بقيت الرابطة بينها وبين الريف قوية . ومع ذلك , فقد اقبلت بعض الدول بصورة متزايدة على التجارة والصناعة (6) , ونشأت طبقة من التجار والصناع واضحة المعالم . من الناحية السياسية , ومنذ القرن السابع ق.م كانت معظم الدول قد ابتعدت عن الانظمة الملكية التي وصفها هوميروس واصبحت تحكمها اقليات ( اوليغاركيات ) مؤلفة من اكثر المواطنين ثروة وقوة . وهكذا حصرت طبقة نبيلة ذات امتيازات مقاليد السلطة السياسية والعسكرية والدينية بأسرها في يدها , فنتج عن ذلك توتر دائم بينها وبين الشعب . زاد في تفاقم هذا التوتر تزايد عدد السكان , لكن الاستعمار جاء يحل هذه المشكلة (7) . فقد نظمت الدول حملات لتأسيس مدن جديدة فيما وراء البحار . ولكن ما ان تأسست هذه المدن الجديدة حتى اصبحت مستقلة عن المدن الام , وان احتفظت بعلاقات وثيقة معها . ومنذ حوالي 750 ق.م . ادت الهجرة الى اقامة مدن يونانية , في جميع انحاء منطقة البحر المتوسط . مقلدين بذلك قرطاجنة . انظمة سياسية جديدة في اثينا , قام صولون ( 640 ؟ -559 ق.م )بمحاولات ترمي الى ازالة المشاكل الكامنة في الصراع الطبقي واصلاح الاطار القانوني للدولة , من اجل حماية الضعفاء . وفي عام 545 ق.م , استولى بيزيستراتوس ( 600؟- 527 ق.م) على السلطة , فاكثر من الحقوق الممنوحة لعامة الشعب , واخضع طبقة الاشراف لسلطة القانون . تبعت الدول الاخرى هذا الاسلوب نفسه , ولذلك قلما استتب الامر طويلا للطغاة . لكن بعض الدول تفادت كليا النظام الاستبدادي , كما فعلت اسبرطة بفضل دستورها الخاص , وكورنثوس بفضل نظامها الاوليغاركي المتين . حتى منتصف القرن السادس ق.م , لم يخضع اليونانيون كثيرا لتأثيرات اجنبية فيما عدا الاتصالات التجارية (2) . تغيرت الحال عندما بسط الليديون سلطتهم على الدول اليونانية في اسيا الصغرى , وخلفهم في ذلك الفرس عام 546 ق.م . لم تكن اي من السلطتين جائرة . ومع ذلك اعلن اليونانيون الثورة عام 499 ق.م , ونجحوا في استعادة استقلالهم مؤقتا . لكن بما ان اواصر الوحدة بينهم كانت ضعيفة , كما كان ضعيفا ايضا الدعم من البلاد اليونانية , فقد استطاع الامبراطور الفارسي دارا عام 494 ق.م . ان يقمع الثورة , واعقب ذلك بفرض سلطته ثانية على تراقيا ومقدونيا , ثم عمد عام 490 ق.م الى تجريد حملة كبرى على اليونان . كانت اثينا , اكبر الدول اليونانية , هدفه المباشر هذه المرة . استنجدت اثينا بالدول اليونانية الاخرى , ولكن قبل وصول النجدة , واجهت قواتها الفرس ودحرتهم بصورة حاسمة في معركة ماراثون , رغم ان عددها كان اقل بكثير من عدد القوات الفارسية , فانسحب جيش دارا مخلفا اليونانيين على ما كانوا عليه من الانقسام , ولكن مقتنعين بتفوقهم على من كانوا يسمونهم " البرابرة " . |
(1) لا نعرف الكثير عن تاريخ اليونان في الفترة الممتدة من وقت وصول الدوريين ( 1200؟ ق.م ) . الى مطلع الحقبة القديمة ( 800 ؟ ق.م ) . الا ان هوميروس يصف لنا مجتمعا مؤلفا من مجتمعات زراعية صغيرة تتحلق حول حصون , ويتزعمها ملوك وطبقات ارستقراطية كانت ما تزال محتفظة ببعض ملامح الحضارة الميكينية . لم يكن لدى هذه المجتمعات حرف او تجارة تذكر . لكن مع قدوم عصر هيسيودس ( القرن الثامن ق.م ) الذي تصف قصائده الروائية الحقبة القديمة المبكرة , اخذت الحرف والتجارة في الظهور , وكان النظام الملكي قد استبدل به بصورة عامة نظام حكم الاقليات ( الاوليجاركيات ) واصبحت المدينة مجور الحياة السياسية .
(2) تاجر اليوانانيون مع الفنيقيين والمصريين وسكان الشرق الاوسط , فضلا عن تجارة المستعمرات مع المدن الام . في الدول المحاذية للبحر كاثينا وكورنثوس , اصبحت التجارة مصدرا هاما للثروة . (3) كانت مدينة برييني في اسيا الصغرى نموذجا لتخطيط المدن عند اليونان . كانت القلعة او الاكروبوليس (1) تقع على قمة التلة . وكانت المديتة الرئيسية تمتد تحتها . اهم معالم المدينة كانت معبد ديميترا ومعابد لمعبودات اخرى (2) , والمسرح الضخم (3) , ولعله اقدم نموذج هليني يتسع لجمهور مؤلف من 5000 شخص , والابنية السكنية (4) التي يتألف كل منها من اربعة الى ستة مساكن , ومباني المجلس والمحاكم (5,6) , والساحة العامة (11) , وهي السوق وعصب المدينة النابض بجوار الشارع الرئيسي (8) , ومعبد زيوس (7) , والملعب (9) وساحة للسباق (10) . ( 6 )بعد تأسيس الدول -المدن , اصبح المجال واسعا امام تطور الحرف والتجارة . فقد استبدل بنظام المقايضة اساليب اكثر تنظيما , واستنبطت انظمة مختلفة للاوزان والمقاييس ( مثل هذا النموذج الظاهر على اناء ذي مقبضين من اتيكا , حيث يبدو رجلان يستعملان ميزانا ) . لكن لم يكتب لاي نظام واحد ان يسيطر . كانت المعادن النفيسة تستعمل للمبادلة , سواء على شكل اسلحة , او قطع يقدر ثمنها بالوزن . وفي اواخر القرن السابع تم اختراع العملة . (7) كان الاستعمار وسيلة للتخلص من الفائض من السكان ومن الناقمين بارسالهم الى الخارج كي يؤسسوا مدنا في مناطق جديدة . بدأت المرحلة الاولى في حوالي 750 ق.م ببعثات الى الغرب , حيث وجد اليونانيون ان الفنيقيين قد استقروا بصورة ثابتة في عدد من المناطق . لكنهم تمكنوا من الاستيطان في صقلية وايطاليا الجنوبية وفرنسا وليبيا . وفي حوالي 650 ق.م , اخذ اليونانيون ينزحون نحو مناطق البحر الاسود , حيث اصبح لديهم مستعمرات . |
الخميس، 28 يناير 2016
اليونان حتى ظهور اثينا
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق