الأربعاء، 23 نوفمبر 2016

روما الامبراطورية

    اصبح اوكتافيان السيد غير المنازع للجمهورية الرومانية , بعد انتصاره على مرقس انطونيوس في معركة اكسيوم عام 31 ق.م . مما لا شك فيه انه كان ينوي تأسيس سلالة ملكية شخصية , لكن حنكته السياسية منعته من تجاهل الشعور الجمهوري القوي في روما . عندما عاد من الشرق عام 29 ق.م , تظاهر باعادة بناء الجمهورية , لكنه شرع بتوطيد سلطته المطلقة في اطار النظام الجمهوري ذاته . 
  اغسطس : " الاول بين الانداد "
  خلع مجلس الشيوخ على اوكتافيان لقب " المواطن الاول " ولقب اغسطس الذي عرف به فيما بعد (8) . بالاضافة الى ذلك , حصل اغسطس على منصب قنصل وسلطة التريبونوس ( اي المدافع عن الشعب ) المشتملة على حق دعوة مجلس الشيوخ الى الانعقاد , ووضع جدول الاعمال , ونقض القرارات , وترشيح اشخاص للانتخاب , واصدار المراسيم . هكذا استطاع اغسطس ان يمارس تأثيرا على حكومة روما وايطاليا , ويباشر برامج تنمية واسعة . 
  قسمت حكومة الامبراطورية (1) الى المقاطعات القديمة المستقرة , التي كان يحكمها نواب القنصل المنتخبون من مجلس الشيوخ , والمقاطعات الجديدة العسكرية التي كان يحكمها ممثلون يعينهم اغسطس بنفسه كنواب للقنصل , ولهم سلطات خاصة على جميع الاخرين . اعيد تنظيم الجيش فوضع تحت سلطة الامبراطور المباشرة , واصبح قوة مؤلفة من 28 فيلقا من المحترفين الذين كانوا يجندون لمدة 20-25 سنة . شكلت هذه الفيالق من المواطنين الرومان , بالاضافة الى عدد مساو من المساعدين المجندين من المقاطعات الاقليمية . قدر لهذا النظام القائم على امبراطور يحكم بمساعدة مجلس الشيوخ ان يستمر لمدة 200 سنة .
  كانت اكثر الامور اهمية انذاك , هي اعادة النظام الى الامبراطورية , وتحصين حدودها . واتجهت اولى حملات اغسطس الى بلاد الغال واسبانيا اللتين اعيد تقسيم كل منهما الى ثلاث مقاطعات , وجرى تحصين خط نهر الدانوب , بواسطة سلسلة من المقاطعات العسكرية , تحميها فيالق عسكرية ضخمة (3) , كما جرت محاولات ابتداء من عام 12 ق.م للتقدم عبر الراين الى نهر الالبا . الا ان فتك الالمان بثلاثة فيالق بقيادة فاروس عام 9 م ارغم اغسطس على الاكتفاء بحدود نهر الراين . في الشرق عقد الصلح مع الامبراطورية الفارسية , واقيمت دولة فاصلة في ارمينيا . اما في الداخل فقد قضى على اللصوصية والقرصنة , وارسيت قواعد جباية الضرائب , وتطبيق القانون الروماني على اسس موحدة . 
  توفي اغسطس عام 14 م , وواصل خلفه تيبيريوس ( حكم 14 - 37 م ) سياسته الرامية الى توطيد الامن , بنجاح كبير , ولم تؤثر في ذلك كثيرا عدم كفاءة كاليجولا ( حكم 37- 41 م) . في عهد كلوديوس ( حكم 41-54 م) , بدأ فتح بريطانيا وتم احتلال موريتانيا ( وكانت تشما المغرب والجزائر الحاليتين ) . 
  مشاكل الخلافة 
  كان من اكثر نقاط الضعف في النظام الامبراطوري , في عهد اغسطس , عدم وضع صيغة ثابتة لمبدأ الخلافة . لذلك , وفي عام 68 م عندما قتل اخر حاكم من سلالته المباشرة , وهو نيرون المعروف بعدم اتزانه , قدمت الفئات العسكرية المختلفة اربعة مرشحين لمنصب الامبراطور . وفي اعقاب حرب اهلية رهيبة , فاز فيسباسيان ( حكم 69 - 79 م ) بالمنصب , فادخل نظاما يقضي بان " يتبنى" كل امبراطور خليفته , مما اعطى للامبراطورية بعض الاستقار . 
  في عهد تراجان ( حكم 98 - 117 م ) اتسعت حدود الامبراطورية ثانية , واضيفت اليها داسيا وارمينيا وبلاد ما بين النهرين (3) , الا ان هادريان ( حكم 117 - 138 ) تخلى عن المقاطعتين الاخيرتين . 
  السلم والرخاء 
  في عهد الاباطرة الانطونيين ( نسبة الى اسم عائلة انطونيوس خليفة هادريان ) , بلغت الامبراطورية ذروة السلام ( السلام الروماني ) . كان المرء يستطيع السفر بامان من بريطانيا الى البلاد العربية على طرق ممتازة وخطوط ملاحة امنة  (6). ازدهرت التجارة (4) ايضا , وانتشرت , في ارجاء الامبراطورية باسرها , ثقافة واحدة ولغتان ( هما اللاتينية واليونانية ) , ونظان واحد من القانون والادارة . ونشأت في المقاطعات (5) مدن عظيمة , ذات مباني عامة فخمة , وكان الناس يسعون وراء الحصول على الجنسية الرومانية بشغف كبير .   
  مع ذلك , كانت ثمة جوانب ضعف كامنة , فقد تعاظمت ثروة روما من الغنائم . وكانت الضرائب والاموال من المقاطعات تنصب في اتجاه , فاصبحت الثروة والخيرات تتدفق على روما , دون انتاج يذكر في المقابل . 
  في عهد مرقس اوريليوس ( حكم 161-180 ) , انتهت فترة السلام , ففي الشرق رد الرومان هجوما بارثيا , الا ان الجنود العائدين حملوا معهم طاعونا رهيبا اجتاح الامبراطورية باسرها , وحط من طاقتها البشرية . وعلى حدود الراين والدانوب , كانت امواج هجرات القوط الى وسط اوروبا تدفع امامها البرابرة (7) , نحو المقاطعات الرومانية , وفي عام 197 , اجتازت عدة قبائل نهر الدانوب وجبال الالب , وزحفت على ايطاليا . كما اجتاحت داسيا , هكذا قضى مرقس اوريليوس بقية سني ملكه يحارب , من اجل اعادة ترسيخ الحدود . 


(1) كانت الامبراطورية الرومانية في اوج عزها في القرن الثاني الميلادي وكانت تنقسم نظريا الى مقاطعات تحت سلطة مجلس الشيوخ او سلطة الامبراطور , لكن في الواقع , كانت للامبراطور صلاحية التدخل في المقاطعات الخاضعة لمجلس الشيوخ . اما ايطاليا فكانت تحكم وفقا لصيغة للدستور الجمهوري ادخل عليها بعض التعديل .  
(2) تزايدت شعبية مباريات السباق , لا سيما سباق العربات ومباريات المصارعة , في ظل الامبراطورية . كان الامبراطور والبطريقيون يتوددون الى عامة الشعب الروماني , باقامة مهرجانات متزايدة التكاليف . ساعد توزيع الخبز المجاني , وكثرة الاحتفالات المجانية , على عزل الشعب الروماني عن الواقع الاقتصادي والسياسي , ولعب دورا رئيسيا في تقلص الشعور بالمسؤولية المدنية . 



(3) جنود الفيالق الرومانية واسرهم يظهرون هنا على عمود تراجان , وهو نصب تذكاري في روما يخلد انتصارات الامبراطور الى ابعد حد , اذ قطعت كتائبه الدانوب متجهة الى داسيا , بفضل الجسر الذي بناه المهندس السوري ابولودورس الدمشقي , ثم انطلقت جنوبا نحو دجلة والفرات , حتى الخليج العربي . فكان الدفاع عنها يستنزف موارد الامبراطورية العسكرية والمالية . 





(4) شبكة الطرقات والمسالك البحرية , التي كانت تربط انحاء الامبراطورية بعضها ببعض , بنيت لتمكين الجنود وجباة الضرائب والاداريين من التنقل بسرعة , الا ان الطرقات الكبرى اتاحت للتجار ان يجوبوا الامبراطورية باسرها بسهولة , وهكذا اصبح العالم الروماني عبارة عن سوق اقتصادية مشتركة , حيث كانت البضائع الاتية من منطقة ما متوافرة في كل مكان . 
(5) يمثل مسرح تدمر في سوريا الطراز الرفيع من المباني ( الهياكل والمدرجات واقنية المياه والحمامات ) التي كانت تشاد في جميع مقاطعات الامبراطورية , على النمط الروماني . كان تسامح الرومان مع ديانات وتقاليد الشعوب المحكومة مشروطا بقبول هذه الشعوب لعبادة الامبراطور , وتقديم الثروات والمنتجات , والولاء لروما . استمرت حضارات اليونان والشرق بالتطور رغم تأثر ابناء الاقاليم عموما , بنموذج الحضارة الرومانية .
(6) تظهر هذه الصورة عملية شحن سفينة رومانية بالحبوب , كانت مصر وافريقيا الشمالية وسوريا مستودع الحبوب للامبراطورية . وكانت كميات الحبوب التي كان الرومان يأخذونها من هذه المقاطعات تؤمن لكل مواطن روماني ’ في العاصمة , جراية مجانية .
(7) كانت الفيالق الرومانية وجيوش الالمان في القرن الاول , غالبا في حالة حرب , كما يتبين من هذا النحت النافر . فقد عجزت الامبراطورية عن اقامة حدود محصنة لها . وهكذا لعبت الغارات " البربرية " دورا رئيسيا في انهيارها , كانت دولة ارمينيا النائية نسبيا الى الشرق تؤمن عادة حماية معقولة ضد الامبراطوريتين الفارسية والبارثية , ولكن في الغرب القريب جدا من قلب الامبراطورية , كان السهر الدائم ضروريا . كان اكثر من نصف الفيالق ال 28 التي انشأها اغسطس , يتخذ مواقعه في المقاطعات المتاخمة للراين والدانوب . حاول اغسطس الاستيلاء على خط نهري الالبا والدانوب السهل التحصين , لكنه لم يتمكن من تحقيق ذلك . 
(8) يظهر الامبراطور اغسطس هنا بصفته " الكاهن الاعظم " . استمرت الديانة الرسمية للجمهورية الرومانية حتى في عهد الامبراطورية , كان الاباطرة يعبدون بعد وفاتهم , واحيانا كان الشعب , في بعض المقاطعات الرومانية يعبدهم وهم احياء , كان التسامح مع الديانات الاخرى مشروطا بقبولها عبادة الامبراطور . وازدادت شعبية عدة عبادات شرقية , مثل عبادة ميثرا او عبادة ايزيس , الا ان اليهودية والمسيحية كانتا محطا للامتهان لانهما رفضتا عبادة الامبراطور . مع العلم ان اضهادهما المباشر كان نادرا 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق