الجمعة، 29 أبريل 2016

قرطاجة واليونان في شمال افريقيا

  بين القرنين الثالث عشر والثامن ق.م , عرف العالم القديم انسياحا لعدد من الشعوب شمل مناطق واسعة منه . ونقل جماعات متعددة من مواطنها الاصلية الى مواطن جديدة . كان من ذلك وصول شعوب البحر الى سواحل مصر والشام ( فلسطين ) , وبعضها وصل سواحل تونس والجزائر . لكنهم لم يتركوا اثرا يذكر , في الفترة نفسها , كان الفنيقيون قد انتشروا في حوض البحر المتوسط كله , واسسوا عددا متزايدا من المستوطنات ( محطات التجارة ) في السواحل الاغريقية والايطالية كما في جزر المتوسط والسواحل الافريقية والاسبانية (1) , تتاجر بالمصنوعات الزجاجية (2) والعاجية والاقمشة والحلى والمواد الغذائية والذهب والفضة والجلود والاصبغة . من هذه المستوطنات : ليبتوس (لبدة ) وصبراطة وحضرموت (سوسة ) وهبو ( عنابة ) وروسدير ( مليلة ) ثم لكسوس ( قرب العرائش الحالية ) في المغرب . وتبع القرطاجيون شواطئ الاطلسي حتى انجلترا , وجنوبا حول افريقيا , بالاضافة الى مدنهم على الساحل الاسباني ( مثل قرطاجنة ) وفي غرب صقلية وسردينيا , ناقلين الى كل مكان مع البضائع (3) حضارتهم وعقائدهم (4)
  قرطاجة 
  رأس هذه الامبراطورية التجارية كانت قرطاجة ( قرت حدش = القرية الحديثة ) التي اسست سنة 813 ق.م . تروي الحكايات عن سبب هجرة اليسار ملكة صور التي اسستها وعن طريقة تأسيسها . نقل اليها الفنيقيون حضارتهم , وسرعان ما اصبحت مدينة - دولة افريقية ,وصارت ام المستعمرات الاخرى في حوض المتوسط الغربي , ومركزها التنظيمي والدفاعي والاقتصادي . يبدو ايضا انها , عن طريق دولة الجرمنت وعاصمتهم جرما عند مشارف الصحراء وحمادة ومرزوق , كانت تمد تجارتها الى اعماق افريقيا , لكن نشاطها الاساسي كان يعتمد على اسطولها البحري القوي وعلى علاقاتها بالمستعمرات الاخرى . لم تكن تطلب منها مقابل الحماية الا الاشراف على تجارتها الخارجية وتقديم الجند والمال والاغذية عند الحروب . 
  قرطاجة كانت ارستقراطية النظم . في اواخر عهدها تشكلت فيها طبقة شعبية لم تعد الحكومة قادرة على السيطرة عليها . وكان الجيش من المرتزقة . فاضطربت امورها في القرن الذي سبق سقوطها . من جهة اخرى , لم يكن من السهل على قرطاجة قيادة تلك الامبراطورية البحرية سبعة قرون دون اعنف الصراع احيانا كثيرة مع القوى المنافسة او النامية على شاطئ المتوسط . 
  الاغريق في شمال افريقيا 
  القوة المنافسة الاولى كانت جماعات الاغريق . فقد اصاب اليونان تفجر سكاني في القرن الثامن ق.م , كان من نتيجته خروج اعداد كبيرة من سكان تلك البلاد لانشاء مستعمرات يونانية في حوض البحر الاسود وفي شواطئ المتوسط . بلغ هذا التوسع ذروته بين سنتي 750 - 550 ق.م . 
  لحق الاغريق بالفنيقيين في معظم الشواطئ . اختاروا في الشمال الافريقي , السواحل المواجهة لبلادهم . انشأوا مدينة نوقراطيس غربي دلتا النيل سنة 640 ق.م , ثم انشأوا مدينة قوريني ( شحات ) سنة 630 ق.م التي رويت في سبب بنائها الاساطير (5) . لكن السبب الحقيقي لبنائها انما كان ضغط الجوع على الجزر اليونانية الاصلية , والتكاثر البشري . انتقل سكان قوريني من الشاطئ الى اطراف هضبة برقة الخصبة ( الجبل الاخضر ) . ويبدو انهم اهلوا بلدة برقة القديمة هناك , وان كان الاغريق يزعمون انهم اسسوها . لم تكن التجارة عملهم الاساسي , لكن الزراعة وتربية الماشية والخيل . استثمروا بخاصة نبات السلفيوم (6) الذي احتكرته الحكومة , وكان يستخدم للعقار ولاستخراج العطر . بعد ذلك بقليل اسست مدينة يوسبيريوس ( بني غازي ) التي كانت ترتبط سياسيا ببرقة . 
  صراع قرطاجة والاغريق 
  الانتشار الاغريقي شمل خاصة برقة وصقلية , لم يشكل اول الامر خطرا على قرطاجة لانه كان زراعيا , ولكن الاغريق سرعان ما تعلموا التجارة البحرية , وتعلموا القرصنة ايضا . وحين تحولت بعض مستعمراتهم قوى سياسية عسكرية كان الصراع مع قرطاجة محتوما . بدأ منذ اواخر القرن السادس زحاما على التوسع , كما جرى في المستعمرة التي انشاها الاغريق قرب لبدة القرطاجية , فأسرعت قرطاجة لتدميرها . بعد فترة قام نوع من اقتسام النفوذ والتعايش بين الطرفين . انصرفت قرطاجة فقط الى مكافحة القراصنة الاغريق في الحوض الغربي للمتوسط وطردهم . لكنها هزمت سنة 480 ق.م . فاكتفت بتركيز نشاطها على السواحل الافريقية وجنوب اسبانيا . عاد الصراع مع الاغريق ومستعمراتهم في في برقة وصقلية منذ اواخر القرن الخامس ق.م . واستمر في القرن الرابع . لكن دواعي التجارة كانت تنتصر على دواعي الحرب , ويتبعها ازدهار المبادلات , في الوقت نفسه اعجبت قرطاجة الكثير من اليونانيين فاستقروا فيها . وكان للقرطاجيين علاقات وثيقة مع اليونان . لكن تأثر قرطاجة بالحضارة الهيلينية كان ضئيلا وجاء متأخرا , ولم يظهر الا في المصنوعات والبناء . اما الفكر اليوناني من فلسفة وعلم , فلم يصل قرطاجة الا بشكل محدود وعن طريق مصر البطلمية . 
  يبقى ان الوجود الاغريقي اندثر في شمال افريقيا . واندمجت بقاياه مع الغزو الروماني . بينما بقي اثر قرطاجة الثقافي طويلا بعد زوالها سنة 146 ق.م .  
  
   














(1) امبراطورية قرطاجة في القرن 6 ق.م . واسعة , ةكان الفنيقيون يخصلون من ترشيش ( ترتسوس ) في ايبيريا على الفضة والنحاس والرصاص والقصدير . ومن اجل ذلك انشأوا منذ القرن 11 ق.م اول مستوطنة لهم في قادس , اما الوصول الى الاسواق الاسبانية , فقد اقتضى من الفينيقيين ان يحاذوا الشواطئ الافريقية لضمان التزود بحاجاتهم منها وتوفير الراحة للبحارين واللجوء الى المرافئ الامنة في حال قيام الزوابع والاعاصير البحرية . فالمستوطنان هذه كانت محطات تجارية للسف التي تقصد اسبانيا بالدرجة الاولى .


(2) اوعية فخارية بونيقية ( قرجاجية ) الصنع تعود الى القرن 8 ق.م . وهي اقدم ما عثر عليه من هذه الصناعة في قرطاجة , اولها (ا) عليه طوق من الذهب ويظهر فيه التأثير المصري . اما الاخر فمن الفخار الملون مع غطاء مسنن .



(3) اشتهر الفيتيقيون منذ القديم بصنع الزجاج والتجارة به , القارورة (ا) من الزجاج الملون , وهي من الالف الاول ق.م اما الصورة (ب) فهي لحلقة من حلقات الاذن صنعت من الزجاج على شكل قناع وترجع الى القرن 2 ق.م .




(4) المعبود بعل حمون كان مرهوبا اكثر مما كان محبوبا لدى القرطاجيين . كثرة المعابد ( بيت ال = بيت الله ) دليل على عمق التدين الفنيقي , وهو يعكس اهوال المخاطرات التي يتعرضون لها . هذا التمثال (ا) الموجود في متحف باردو في تونس والعائد الى القرن الاول الميلادي يدل على ان العبادات القرطاجية استمرت قائمة طويلا بعد انهيار قرطاجة . ملامحه الاغريقية ناجمة من ان القرطاجيين كانوا يستقدمون الفنانين الاجانب لحاجاتهم الفنية . اما الصورة (ب) فهي قطعة من الحلي الذهبية . وكان للحلي دور اساسي في التجارة الفنيقية . وجد منها الكثير في القبور . بعضها ذهبي وبعضها من العاج او الزجاج . على هذه الحلية رسم زجاجة من حولها بكل جانب افعى ولعلها حرز سحري .

(5) المدن اليونانية الرئيسية التي انشئت في برقة بدء من القرن السابع ق.م , ازدهرت فيما بعد تجاريا وحضاريا وثقافيا . في مقدمتها مدينة قورينة ( شحات اليوم ) التي بنيت على تلين , شرقي عليه معبد زفس وغربي فيه الاغورا والمباني الحكومية ومباني السطن . كانت في القرن الرابع ق.م ثاني مدينة يونانية بعد اثينا . بين فلاسفتها وشعرائها كليماخوس وكارتيادس وارستيوس . ومنها جاء اراثوسيتز العالم الاسكندري . كانت قورينة ايضا مدينة زفس , اذ ان هيكله كان من اجمل ما بني تكريما له . عني الرومان بعد ذلك بالمدينة لهذا اضحت من اهم المناطق الاثرية في ليبيا بما فيها من اسوار ومقابر صخرية وحمامات ومسرح . وصفها بندار الشاعر الاغريقي بانها مدينة " اقيمت على عرش من ذهب " . وكانت اشهر مدينة في اتحاد المدن الخمس في برقة " بنتابوليس " بلغت مدنيتها الاوج سنة 400 ق.م , صارت تابعة للبطالمة وبعدهم الرومان . ابتدأ عصر انحطاطها في القرن الثالث الميلادي بعد ان دمرتها الزلازل .

(6) حكمت مدينة قورينة منذ استوطنها اليونانيون اسرة باتوس الاغريقية ( 630 - 440 ق.م ) . توالى منها ثمانية ملوك , اربعة باسم باتوس واربعة من ابنائهم باسم اركيسيلاوس . على هذا الكوب الفخاري نرى رسم اركيسيلاوس الثاني ( 554 - 544 ق.م)الذي لقي الاغريق في عهده الهزيمة على يد قوات برقة , وهو هنا يشرف بنفسه على وزن نبات السلفيوم تمهيدا لتصديره . كان هذا النبات من احتكار الحكومة وتجارتها الهامة قبل ان ينقرض .  







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق